الحمد لله الحمد لله العلي الأعلى الولي المولى الذي خلق فسوى و حكم على خلقه بالموت و الفناء و الباقي إلى دار الجزاء ثم الفصل و القضاء " (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)(طـه: من الآية15) " و لقد قال تعالى في محكم التنزيل " (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (طـه) . و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و إليه المنتهى ، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون.
من اعتصم بالله و رسوله فقد اعتصم بالعروة الوثقى و سعد في الآخرة و الأولى و من يعصي الله و رسوله فقد ضل ضلالا بعيدا و خسر خسرانا مبينا، أسأل الله أن يجعلني و إياكم ممن يطيعه و يطيع رسوله صلى الله عليه و سلم و يتبع رضوانه و يتجنب سخطه فإنما نحن به و له .
أوصيكم إخواني بتقوى الله و أحثكم على طاعته فإن تقوى الله أفضل ما تحاث الناس عليه و تداعوا إليه و تواصوا به فاتقوا الله ما استطعتم و لا تموتن إلا و أنتم مسلون.
أما بعد: قال الله تعالى :" (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك) ، وقال تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران:185). و قال عليه الصلاة و السلام :" أكثروا من ذكر هادم اللذات " يعني الموت. فإنًّ ذِكر الموت يورث الإنزعاج عن هذه الدار الفانية و التوجه في كل لحظة إلى الدار الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق و سعة و نعمة و محنة فإن كان في حال ضيق و محنة فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه، فإنه لا يدوم و الموت أصعب منه، و إن كان في حالة نعمة و سعة فذكر الموت يمنعه من الإغترار بها و السكون إليها. فالموت ليس بعدم محض و لا فناء صرف و إنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن و مفارقته و حيلولة بينهما و تبدل حال و انتقال من دار إلى دار و هو من أعظم المصائب و قد سماه الله تعالى مصيبة في قوله تعالى " ( فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ )(المائدة: الآية106) " . فالموت هو المصيبة العظمى و الرزية الكبرى قال العلماء و أعظم منه الغفلة عنه و الإعراض عن ذكرة و قلة التفكير فيه و ترك العمل له و إن فيه و حده لعبرة لمن اعتبر و فكرة لمن تفكر و في خبر يروى عنه صلى الله عليه و سلم: " لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا " ، و يروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له فخر ميتا فنزل الأعرابي عنه و جعل يطوف به و يتفكر فيه و يقول مالك لا تقوم مالك لا تنبعث هذه أعضاءك كاملة و جوارحك سالمة ما شأنك ما الذي كان يحملك ما الذي كان يبعثك من الذي عن الحركة منعك ، ثم تركه و انصرف متفكرا في شأنه متعجبا من أمره . و روى ابن ماجه عن ابن عمر انه قال كنت جالسا مع رسول الله صلى الله علية و سلم فجاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، قال يا رسول الله : " أي المؤمنين أفضل قال صلى الله عليه و سلم: { أحسنهم خلقا} " قال : "فأي المؤمنين أكيس ؟" قال صلى الله عليه و سلم: { أكثرهم للموت ذكرا و أحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس}.
فمن ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة و منعه من تمنيها في المستقبل و زهده فيما كان فيها يؤمل .
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات:
لا شئ مما تـرى تبقى بشاشته يبقى الإله و يودى المال و الولد
لم تغـن عن هرمز يوما خزائنه و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا و لا سليمان إذ تجري الرياح له و الإنس و الجن فيما بينها ترد أيـن الملوك التي كانت لعزتها من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوما كما وردوا
و روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى و أبكى من حوله فقال استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي و استأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت.
و لقد أحسن أبو العتاهية حيث قال:
يا عجا للناس لو فكروا و حاسبوا أنفسهم و أبصروا
و عبروا الدنيا إلى غيرها فإنما الدنيا لهم معبر
لا فخر إلا فخر أهل التقى غدا إذا ضمهم المحشر
ليعلمن الناس أن التقى و البر كان خير ما يدخر
عجبت للإنسان في فخره و هو غدا في قبره يقبر
ما بال من أوله نطفة و جيفة آخره يفخر أصبح لا يملك تقديم ما يرجو و لا تأخير ما يحذر
و أصبح الأمر إلى غيره في كل ما يقضى و ما يقدر
أيها الناس ليس للقلوب مثل زيارة القبور و خاصة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بثلاثة أمور:
أحدها: الإقلاع عن ما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ و التذكر و التخويف و الترغيب و أخبار الصالحين .
ثانيها: ذكر الموت ، فيكثر من ذكر هادم اللذات و مفرق الجماعات و ميتم البنين و البنات .
ثالثها: مشاهدة المحتضرين فإن النظر إلى الميت و مشاهدة سكراته و نزعاته و تأمل صورته بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذاتها و يطرد عن القلوب مسراتها و يمنع الأجفان من النوم و الأبدان من الراحة ، و يبعث على العمل و يزيد في الإجتهاد و التعب في طاعة الله.
يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه و شده ما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له الطعام يرحمك الله فقال: يا أهلاه عليكم بطعامكم و شرابكم فوالله لقد رأيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
فهذه ثلاثه أمور ينبغي لمن قسى قلبه و لزمه ذنبه أن يستعين بها على دواء داءه و يستصرخ بها عن فتن الشيطان و إغواءه فإن انتفع بها فذاك و إن عظم عليه ران القلب و استحكمت به دواعي الذنب فزيارة قبور الموتى تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول و الثاني و الثالث ، و لذلك قال عليه الصلاة و السلام :" زوروا القبور فإنها تذكر الموت