الله رسولَه نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً .
بعثه الله في مكة البلدة التي ولد فيها ، فدعا قومَه قريش إلى توحيد الله بالعبادة ، دعاهم إلى الإسلام ، فآمنَ به مَنْ آمن منهم ، ولكن أكثرهم كذبوه وحاربوه وكان ممن حاربه وآذاه بعضُ سادات قريش وكبرائهم.
ومكثَ يدعوهم إلى الله ثلاثَ عشرةَ سنةً حتى تمالأ القومُ على قتله ،وجمعوا القتلة من أبناء قبائلهم لكي يضيع دم النبي صلى الله عليه وسلم بين القبائل ، فأذن اللهُ لنبيه الكريم بالهجرة إلى المدينة.
هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة التي سبقه إليها بعضُ أصحابه ، فخرج المؤمنون لاستقباله مرحبين به ، وتلألأت المدينةُ نوراً بمقدم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وفرح أهلُها ، وكان الأوس والخزرج متعادين متفرقين قبل مجيئه فاجتمعت كلمتهم على نصرته ، و وحدت الأوسَ والخزرجَ محبتُه ، فأصبح اسمُهم واحداً ( الأنصار ) .
ويا لهُ من شرفٍ إنهم أنصارُ اللهِ ورسولـِه صلى الله عليه وسلم .
وقد كانوا خيرَ أنصار ؛ فقد آووا إخوانَهم المهاجرين الذين جاءوهم من مكة ، وأشركوهم معهم في ما رزقهم الله ، و ألَّف الله بين قلوبهم ، فبعد أن كان النبي الكريم وأصحابه يعيشون في مكة بين من يحاربهم ويؤذيهم ، وإذا هم ينتقلون إلى من يكرمهم ويحبهم ويؤاخيهم ، نعمةً من الله وفضلاً ، ونصراً لنبيه الكريم ، وتمهيداً لقيام دولة الإسلام .
و قد تجلت نصرةُ الأنصار للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم في أوضح صور النصرة ؛ النصرة بالنفوس الزكية ، فقد بذلوا أرواحهم في سبيل الله ، يُقاتلون مع رسوله الكريم ، ويجاهدون في سبيل الله يبتغون جنةً عرضها السماوات والأرض ، ولا يأسفون على الدنيا وملذاتها .
وحارب الأنصارُ مع النبي الكريم في معركة بدر وأحد وفي الخندق وكانوا معه في السرايا والغزوات،و تجلى وفاؤهم بما عاهدوا الله عليه ورسوله صلى الله عليه وسلم من النصرة و الإيمان والجهاد في سبيل الله .
وبعد بضع سنين بعد أن قويت شوكة الإسلام توجه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها الله عليه وخضعت لسلطانه ، وارتفع فيها نداءُ الحق من بيت الله الحرام ليستمرَ إلى قيام الساعة معلناً بأن الله أكبر وأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
وآمنت بقايا قريش التي كانت تحارب النبي صلى الله عليه وسلم ، وانضوى قوم الرسول الكريم تحت لوائه ، لكنهم كانوا حديثي عهدٍ بالإسلام ، وانطلقوا يجاهدون معه ، وفي أول غزاةٍ لهم مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تألفهم بالغنائم.
فبعد فتح مكة انطلق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بجيشه من المهاجرين والأنصار والمؤلفة قلوبهم إلى الطائف لمحاربة هوازن ، فوقعت معركة حنين المشهورة التي نصر الله فيها رسوله الكريم و المسلمين ، فغنم منهم وأفاء الله عليه وعلى المؤمنين خيراً كثيراً.
وعندما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من رد سبايا حنين إلى أهلها ، ركب واتبعه الناس يقولون : يا رسول الله ، اقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم ، حتى ألجأوه إلى شجرة ، فاختطفت عنه رداءه ؛ فقال : أدوا علي ردائي أيها الناس ، فوالله لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً.
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفةَ قلوبهم من الذين أسلموا حديثاً ، وكانوا أشرافاً من أشراف الناس ، يتألفهم ويتألف بهم قومهم ، فأعطى أبا سفيان بن حرب مئة بعير ، وأعطى ابنه معاوية مئة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مئة بعير ، وأعطى الحارث بن الحارث بن كلدة أخا بني عبد الدار مئة بعير .
وأعطى رجالاً من قريش المئة من الإبل ، وأعطى في قبائل العرب ، ولم يعط الأنصار شيئاً فوجِدَ الأنصارُ في نفوسِهم و قالوا يغفر الله لرسولِ الله يعطي قريشاً ويتركُنا وسيوفُنا تقطر من دمائهم ، وقال قائلهم : لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
وبلغت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مقالةُ الأنصار التي قالوها ؛ فقد دخل عليه سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إن هذا الحيَّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء .
قال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ قال : يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومي ، قال : فاجمع لي قومك .
فطلب من الأنصار أن يجتمعوا لوحدهم ولما اجتمعوا جاءهم النبيُ الكريم صلى الله عليه وسلم وهو العارفُ بفضلهم الحريصُ عليهم الذي أخبر ربُّه أنَّهُ بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم ،وقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال :
يا معشر الأنصار ، ما قالةٌ بلغتني عنكم ، وجِدةٌ وجدتموها علي في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ، وعالةً فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم !
صلى الله عليه وسلم ما أكرمه وما أحكمه وما أرحمه بصحابته وأمته ، ها هو يذكرهم بفضل الله عليهم أن هداهم بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ؛ وأنجاهم به من النار ؛ وهداهم به من الضلالة ؛ وأغناهم به بعد الفقر ؛ وألف بين قلوبهم بعد العداوة .
أليست نعماً عظيمةً منَّ الله بها عليهم ببركة نصرتهم لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ! بلى والله إنها نعمٌ عظيمة.
وإن الأنصار ليعرفون ذلك الفضل لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وإنهم ليحمدون الله أن هداهم للإسلام وأن وفقهم لنصرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .
قال لهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم !
وكان جوابهم مفعماً بالأدب والصدق ، قالوا : بلى ، اللهُ ورسولُه أمنُّ وأفضل .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ؟
بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، قد أجابوه ذلك الجواب المؤدب الصادق ، لكنه قائدٌ ملهم ونبي كريم لا يمنع الناس من إبداء آرائهم ، بل يطلب منهم أن يقولوا ما في نفوسهم فيستحثهم ليقولوا و ليُعاتبوا ، إنهم أحبابه يعاتبهم ويعاتبوه ، وما أجمل عتاب المحبين ، فكيف إذا كانوا ممن اجتمعوا على أشرف حب وأسناه حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وفي علمٍ وأدب قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ الله ولرسوله المن والفضل ، إنه علمٌ بفضل و منة الله ورسوله عليهم ، وأدبٌ مع مقامِ النبي الكريمِ صلى الله عليه وسلم.
فيُجيبُ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم نيابةً عنهم تقديراً لهم واعترافاً بفضلهم ، موضحاً لهم أنه يعرف فضائلهم فيقول :
أما والله لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم ولصدقتم : أتيتنا مكذَّباً فصدَّقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم من أجل لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم .
إن أهل الفضل يعرفون لأهل الفضل فضلهم ، وقد عرف النبي الكريم لصحابته من الأنصار فضلهم فتحدث بلسانهم وقال ما منعهم أدبهم أن يقولوه مذكراً بفضائلهم في تصديقه ونصرته وإيوائه ومواساته .
ثم أتبع ثناءه عليهم بأن وعظهم موعظة الحريص عليهم : (أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم من أجل لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم . )
إنه يذكِّرهم بأن هذه الغنائم إنما هي لعاعةٌ من الدنيا تألَّف بها حديثي الإسلام ، و وكل الأنصار إلى إسلامهم وإيمانهم الراسخ وقد كان صلى الله عليه وسلم مصيباً في ذلك .
ثم بيَّن لهم أكبرَ غنيمةٍ نالوها ألا وهي ظفرُهم بنصرة الرسول الكريم صل الله عليه وسلم وبصحبته ، إن الناس يرجعون بالشاء والبعير ويرجع الأنصار بأكبر غنيمةٍ إنها : رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
ألا ترضون يا معشر الأنصار ، أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمدٍ بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ، ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصارُ شعبا ، لسلكتُ شِعب الأنصار ، اللهم ارحم الأنصارَ ، وأبناءَ الأنصار ، وأبناءَ أبناءِ الأنصار .
الله أكبر .. الله أكبر
يا له من رسولٍ كريم صلى الله عليه وسلم ختم عتابَ المحبين بدعواتٍ مباركات للأنصار ولأبنائهم ولأبناء أبنائهم.
فماذا قال الأنصار ؟
لم تعد الكلمات تسعفهم ليعبروا عن مشاعرهم
وحين تعجز الكلمات تعبر الدموعُ عن مشاعر الحب ، وما أعظمه من تعبير ، إنها تنطلق من الأعماق لتعبر عما في الأعماق من حبٍّ وروابط لا تنفصم لأنها روابط ثبتها الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم .
فقد نقلت لنا كتب السير أنهم بعد أن سمعوا ما قاله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بكوا حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفرقوا .
اللهم إنا نسألك حبَّك وحبَّ نبيك صلى الله عليه وسلم ، وحبَّ صحابته الكرام من المهاجرين والأنصار ، وحبَّ عبادك الصالحين الذين اتبعوهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.