الحمد لله تعالى , نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
الموضوع الذي أردتُ أن أحدثكم عنه , موضوع خطر في بالي وأنا أتأمل آية من كتاب الله تبارك وتعالى : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أوليائه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين } . فأنت ترى في هذه الآية المحكمة أن الله سبحانه وتعالى بين أن الشيطان يخوفنا من أوليائه , وأولياؤه هم اليهود والنصارى والكفار والمنافقون و أهل الضلال ؛ ثم يقول الله سبحانه وتعالى { فلا تخافوهم } وهذا نهي يقتضي التحريم , لأن نواهي ربنا تعالى مبناها على التحريم , فما نهى عنه فهو حرام , وما أمر به فهو واجب , إلا إذا وجد قرينة تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة , أو تصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب . والقرينة في الآية تدل على أن النهي للتحريم , لأن الله سبحانه وتعالى قال : { فلا تخافوهم وخافوني } فجعل خوفه سبحانه هو المطلوب ( وخوف الله تعالى واجب ) وجعل نقيض خوفه أن يخاف الإنسان من المخلوق . فكأن قلب الإنسان إن سكنه خوف الله زال عنه خوف المخلوق , وإن خلا من خوف الله تعالى أصبح الإنسان يخاف من كل شيء : يخاف من المخلوقات , ليس فقط من الشيطان وأوليائه بل يخاف من النجوم ويخاف من الأمطار ويخاف من العواصف ويخاف من البحار . ولذلك المشركون عبدوا آلهة شتى , عبدوا الشمس والحجر والقمر والأفلاك . لماذا عبدوها ؟ لأنهم خافوها ولم يخافوا الله عز وجل . وأيضا ختم الله الآية بقوله { إن كنتم مؤمنين ) . و ( إن) هنا كما يقول العلماء شرطية . فجعل الله تعالى الخوف منه وعدم الخوف من المخلوقين ( وخاصة الشيطان وأوليائه ) جعل الله تعالى ذلك من مقتضيات الإيمان .
واليوم تفنن أعداء الإسلام في زرع الخوف في قلوب المسلمين ، فيوجد على سبيل المثال أجهزة متخصصة لنشر الرعب بيـن الناس , ويـوجد وسائل إعلام ( كتب , مجلات , أشرطة ، أشرطة فيديو ) مخصصة لزرع المخاوف في نفوس الناس ، وهذا يسمونه عندهم الردع ، الردع الذي يولد الخوف عند الإنسان كي لا يقوم بأي عمل .
يعني مثلاً , لما تذهب إلى أي مكتبة في العالم تجد كتب يسمونها ( الجاسوسية ) , مئات الكتب بل آلاف , بعضها قصص وبعضها أخبار, وبعضها تحاليل, وبعضها مقالات, وبعضها مقابلات , وبعضها ذكريات .. ثم تجد هناك أشياء أخرى ( تمثيليات وأفلام وصور حية ) .
هذه الأشياء جزء غير قليل منها أكاذيب عالمية دولية , يقصد من ورائها زرع الخوف عند الناس ، لأنهم يقولون من النجاح أن تمنع الإنسان من فعل الشيء قبل أن يفعله . بمعنى انهم يعتمدون على مبدأ نشر مثل هذه المخاوف عند الناس.
حتى إنك تجد كثيرا من الناس في أنحاء العالم ( العالم كله , والعالم الإسلامي أيضا جزء منه ) , تجد الواحد منهم تتراقص الأشباح بين عينيه ( لا تنطقوا إن الجدار له أذن .!! ) .
يتخيل البعض ( مثلاً ) أن في بيته جهاز تصنت , وان إحساسه محسوب وأن كلماته معدودة وأنه مراقب في يقظته ومنامه .
وأنا أقول : نعم هذا كله صحيح , ولكن ممن هذه المراقبة ؟؟ من الله { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد }, { إن كل نفس لما عليها حافظ }, { وإن عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون } .. فهؤلاء ملائكة , زودهم الله سبحانه وتعالى بإمكانية أن يراقبوا الإنسان في كل شيء , وعلى كل حال , وأن يكتبوا ذلك .
والغريب أن تجد من الناس من لا يقيم وزنا للملائكة الكرام الكاتبين , ولا يقيم وزناً للرقيب العتيد الحاضر الموجود , ولا يقيم وزنا للصحائف التي يدونها الملكان , ويغفل عن ذلك كله , لكنه يقيم ألف وزن للمخلوقين .. والمخلوقين لا يعرفون ماذا في القلب ولا يعرفون ماذا في الصدر .
وكثير من الأشياء التي يعرفها عامة الناس قد لا يعرفها من يريد ويتقصد أن يعرفها .. والإنسان مركب من الضعف والنقص والغفلة , ولذلك أنت أحيانا تخدم عدوك من حيث لا تدري , حينما تعطيه هذه المكانة وتغرس في قلبك هذا الخوف له .. هذا الخوف يا أيها الاخوة : أثقل كواهل المسلمين .
( رأيت في بلاد إسلامية بعيدة وقريبة ) ، الواحد منهم لا يستطيع أن يصنع شيئا لدينه قط .. لماذا ؟!.
لأنه مثقل بالأوهام والمخاوف .
سبحان الله ... يا ليت خوفك من ربنا جل وتعالى , أو مراقبتك للملائكة عن يمينك وشمالك يكون كذلك .. إذا لأقلعت عن الذنوب والمعاصي وفارقتها سراً وعلانية .. أما هذا الخوف من المخلوقين , فيخشى أن يكون قدحاً في التوحيد , لأنه أقعدك عن العمل الصالح , وأقعدك عن الطاعات , وسيّرك إلى أن تتشبه بغير المسلمين وبالفاسقين , وتتخلى عن سيما الإيمان وتتخلى عن العلم وتتخلى عن العمل في أوساط الناس ، الخوف هو الذي قصم ظهرك وأذل عنقك .
من ماذا تخاف ؟!.
أين سكينة المؤمنين ؟!.
الرسول عليه الصلاة والسلام كتم أمر الهجرة ( كما تعرفون ) ، وخرج ثاني اثنين إذ هما في الغار شريدا طريدا في مكة .
يا طريدا ملأ الدنيا اسمه وغدا لحنا على كل الشفاه
وغدت سيرته أنشودة يتـلقـاها رواةً عن رواه
نعم أخرجوه من مكة صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الله تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار } . يريدون رأسه صلى الله عليه وسلم, ويجعلون مئة من الإبل لمن أتى به حيا أو ميتا , بل أكثر من ذلك , فيقول لصاحبه : { لا تحزن إن الله معنا } .
انظر لقوة القلب وشدة الخوف من الله , وانعدام الخوف من المخلوقين { لا تحزن إن الله معنا } .
ألا تلاحظون أيها الأحبة : أن الرسول عليه السلام لم يقل لأبي بكر { لا تخف إن الله معنا } , بل قال : { لا تحزن إن الله معنا } .
حتى أبو بكر لم يكن خائفا على نفسه , كان حزينا على ما آل إليه أمر هؤلاء القوم , وعلى دعوة الله عز وجل , وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولهذا عزاه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : { لا تحزن إن الله معنا } .
فنحن منصورون لأننا نستمد قوتنا من الله القوي الحي القادر , أما هؤلاء فمشركون وثنيون مبتورون , ليس لهم تاريخ ولا مجد ولا حاضر ولا مستقبل , كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر* إن شانئك هو الأبتر } . مبغضك , معاديك , محارب دينك , ودعوتك هو الأبتر الذي ليس له عَقِبٌ ولا تاريخ . . ولهذا تجد اسم الرسول صلى الله عليه وسلم على كل لسان .
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذ قال المؤذن في الخمس أشهد
وشق له من اسمـه كي يجلـه فذو الـعرش محمود وهذا محمد
لست أقول المسلمون يعرفونه , بل حتى الكفار واليهود والنصارى وأمم الأرض كلها لا تجهل من هو محمد صلى الله عليه وسلم .. يعرفه أعداؤه وأصدقاؤه على السواء , وأشد الناس عداوة لن يستطيعوا أن ينالوا منه شيئا , ولا أن يقولوا فيه شيئاً عليه الصلاة والسلام إلا أن يكون إفكا وزورا وبهتانا .
لكن شانئه ومبغضه ( أبو لهب , أبو جهل ) لا أحد يعرف اسمه الذي سماه به أبوه, أو سمته به أمه , فنسخ الله تعالى ذكراهم وأبطل أمرهم , فما عاد يعرفهم ولا يفرح بقرابتهم أحد , فأحفادهم لا يمكن أن يفتخر واحد منهم بأنه ابن فلان أو عم فلان أو خال فلان ... لِـمَ ؟! .
هذا لأن { إن شانئك هو الأبتر } .
إذا هذه هي السكينة التي أنزلها الله تعالى على رسوله وعلى المؤمنين . أنزل السكينة عليه يوم الهجرة , وأنزل السكينة عليه يوم حنين , كما هو معروف من القصة والسورة . فأنزل الله تعالى السكينة على المؤمنين .. السكينة التي تجعلهم وهم يرون الموت الأحمر أمام عيونهم ويبصرون الرؤوس تتساقط وتنحدر في الأرض , وهذا الموقف لا يزعجهم ولا يخيفهم ، في قلوبهم قوة الإيمان وشدة التوكل على الله العظيم و الثقة بالله سبحانه وتعالى .
تلك المرأة ( مثلاً ) التي في قصة الأخدود - وحديثه في صحيح مسلم - لما أقبلت ومعها صبيها لتلقي بنفسها وصبيها في النار , وهي ترى اللحم يحترق ويشوى بالنار , وتشم رائحة الشواء النفاذة في أنفها , وترى هذا اللحم الطري الغض كيف يتحول إلى فحم أسود محترق , ثم تقدم على ذلك , أقدمت بقوة إيمانها , أقبلت في السكينة التي جعلها الله تعالى في قلبها .. وهذا هو نفسه ما يواجهه الشهيد , وهو يقتل في سبيل الله . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم , أن الشهيد لا يجد من ألم القتل إلا كما يجد أحدكم من ألم القرصة ( على أسوأ الأحوال قرصة عقرب ) .
فانظر أن الله تعالى طلب منك الخطوة الأولى , ووعدك بأن يكون هناك توفيق وتأييد منه , وأن تكون طمأنينته وسكينته سبحانه هي الثمن الذي ينـزل في قلبك , وهذا موجود عند جميع المصلحين والمؤمنين عبر التاريخ .
أتذكر في هذه المناسبة كيف أن ابن القيم رحمه الله يصف شيخه الإمام ابن تيمية فيقول : " إنه كان رابط الجأش , نأتيه وقد اشتدت منا المخاوف واهتزت القلوب , فما إن نراه حتى يزول الخوف عن قلوبنا وسري عنا , فإذا تكلم بنى بنيان الإيمان واليقين والتوكل في قلوبنا " .
سبحان الله . رأينا كيف أن هناك أمورا بسيطة ويسيرة وتافهة تكبر عند بعض ضعاف القلوب حتى تصبح كالجبل العظيم , وكيف أن هناك أمورا كبيرة وعظيمة في نظر جماهير الناس تصغر عند أهل الإيمان واليقين حتى تصبح لا شيء !! .
وكما قيل :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتى على قدر الكرام المكارم
وتكبر في عين الصغير صغارها وتسهل في عين العظيم العظائم
الإنسان العظيم تصغر في عينه الأمور الكبيرة , لأنه يتجاوزها .
فالمؤمن ( مثلاً ) الذي آثر سلوك درب الشهادة في سبيل الله , ماذا يشكل بالنسبة له كون أحد آذاه أو سبه أو سخر منه , وهدده أو توعده أو ضربه , أو ضيق عليه , أو أخر رتبته أو أبعده أو أقصاه ... إذا كان فعلا يريد الشهادة في سبيل الله , فما دون ذلك عنده كلها أمور سهلة يسيرة , ويتجاوزها .
المسلمون اليوم على وجه الخصوص قتلتهم الأوهام ودقت عظامهم ، فليس عند المسلم قوة الشخصية , قوة الإيمان , قوة الثقة بالله , ثم قوة الثقة بنفسه , التأكد من سلامة خطواته , الاطمئنان إلى أنه منصور , الثقة بوعد الله عز وجل .
أرأيتم لو أن إنسانا يخاف من المرض , أليس هذا مرض بحد ذاته !؟.
بلى هو مرض , ربما ليس له دواء إلا دواء الإيمان بالله والتوكل عليه , لأنه ليس مرض عضوي يمكن أن يعالج , ووإنما هو مرض نفسي عبارة عن أوهام .
ولذلك يزعمون في الأساطير ( وهذه أسطورة ولكن معناها حقيقي ) أن رجلا أبصر المرض " الوباء " وهو ذاهب إلى مدينة . فقال له : إلى أين أنت ذاهب ؟ قال : ذاهب إلى مدينة كذا وكذا لأقتل منها خمسة آلاف نفس .. ثم بعد ذلك جاءت الأخبار إلى هذا الرجل , أنه مات في القرية خمسون ألفا ! . وأبصر الوباء وهو راجع .. قال : من أين أقبلت ؟. قال : من مدينة كذا , وقد قتلت منها خمسة آلاف . قال : بل قتلت خمسون ألفا !. قال : لا قتلت خمسة آلاف , أما الباقون فقد قتلهم الوهم !!!!
فالوهم قاتل .