مع حلول فصل الصيف تنشط الهجرة السرية أو ما يصطلح عليها محليا بـ"ظاهرة الحراقة" في الجزائر عبر السواحل، حيث تواجه السلطات آفة كبيرة تتمثل في التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين الآتين من مختلف أقطار القارة الذين يمرون عبرها التراب الجزائري ، حيث تنفق سنويا ميزانية ضخمة لمواجهة ملف الهجرة السرية، خاصة خلال عمليات ترحيل الرعايا نحو بلدانهم.
فرغم كل الجهود التي تبذلها السلطات الأمنية لمحاربة هذه الآفة إلا أن أفواج المهاجرين من مختلف بقاع العالم نحو الجزائر لاتزال تتدفق الى التراب الوطني بمساعدة شبكات دولية مختصة في التجارة البشرية، فحسب معلومات أولية فإن الجزائر شهدت موجة غير طبيعية من الهجرة السرية.
وتشكل الحدود الجزائرية الجنوبية أكبر بوابة للمهاجرين غير الشرعيين أين يتم توقيف حوالي خمسين بالمائة منهم في ولايتي تمنراست واليزي.
ولم تعد الجزائر قادرة على مواجهة هذه الظاهرة بمعزل عن التعاون الإقليمي والدولي كما يحدث في بعض البلدان المجاورة، كما أن الحكومة الجزائرية ترفض الحلول اللاإنسانية التي تقترحها بعض الدول الأوروبية كإقامة محاشر بشرية للمهاجرين السريين أو ما يطلق عليها بمراكز العبور.
ويشكل المهاجرون من دولة النيجر أكبر نسبة من ناحية عدد الموقوفوين على التراب الجزائري خلال السبع سنوات الماضية، حيث بلغ عددهم أكثر من 12 الف مهاجر سري يليهم المهاجرون الماليون بأكثر من 7000 مهاجر، إضافة إلى عدد كبير من الجنسيات الأخرى خاصة الآسياويين والمغاربة.
وعلي المستوي المحلي، تشير بعض الإحصاءات إلي هروب 30 ألف كادر خلال 5 سنوات من خير الخبرات الجزائرية.
تشريع عاجل
تتعالى الأصوات في الجزائر داعية الفاعلين إلى تشريع عاجل لهذه الظاهرة ، ويري مراقبون إنّ ظاهرة الهجرة غير الشرعية مؤشر قوي على عمق الأزمة التي تتخبط فيها الجزائر، حيث فشلت جميع الحكومات المتعاقبة في حل المعضلة، ورغم تدخل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة شخصيا ، وإعلانه عن إجراءات سياسية تهدف إعادة إدماج الشباب اليائس عبر إشراكه في شتى المشاريع الإنمائية، إلاّ أنّ الخطوة لم تكن لتقنعهم بجدوى التخلي عن شعارهم الشهير "يأكلني الحوت ولا يأكلني الدود!"، وهي ظاهرة محيرة لم يجد لها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة وصفا غير فقدان الروح الوطنية.
كما حذر الخبراء أيضا من الانعكاسات السلبية لهجرة الادمغة الجزائرية الى الخارج وعدم الكفاءة المحلية في ادراة الاموال العامة الموجهة للبحث العلمي.
فقد كشفت خديجة هني الخبيرة الجزائرية في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألكسو"، إنّ البلدان العربية تفقد 50 % من أدمغتها كل عام، ويتعلق الأمر بخيرة الكوادر العربية يتقدمهم الأطباء والمهندسين الذين يختارون الهجرة إلى ما وراء البحار لاسيما أوروبا، وبدرجة أقل الولايات المتحدة الأمريكية، وتأتي الجزائر في صدارة الدول العربية المعانية من نزيف الهجرة، إذ تفتقد خدمات 45 ألف كادر على الأقل يتوزعون عبر القارات الخمس.
وقالت هني :"إن مصيبة الأمة في نخبة باحثيها العلميين من ذوي المؤهلات الفكرية البارعة" الذين اختار 23% منهم مغادرة الديار دوريا مباشرة بعد إنهاءهم من الدراسة، ويشكّل المعطى بحسبها مؤشرا على معدلات هجرة غير مسبوقة للكفاءات العربية التي بات الأوروبيون والأميريكيون يستفيدون من طاقاتهم.
من جانبه، أشار عبد القادر مساهل الوزير المنتدب للشئون المغاربية والأفريقية إلي أن التعاطي مع الهجرة كظاهرة لا ينبغي حصره فقط في الهجرة السرية لأن هناك عدة جوانب تتطلب المعالجة ، مرتبطة بالظاهرة ، داعيا إلى تفادي التهويل من الهجرة السرية وعدم تجاهل قضايا مهمة لا تقل أهمية وخطورة عنها، مثل العنصرية وكره الأجانب في البلدان الغربية.
وأوضح الوزير المنتدب للشئون المغاربية والأفريقية، أن الأولوية في البحث عن حل للهجرة يجب أن تعطى للتنمية، حيث تعد مركز كل الحلول المتعلقة بظاهرة الهجرة سواء الشرعية أو غير الشرعية.
وفي السياق نفسه ، قال المدير العام للمنظمة الدولية للهجرة، إن الهيئة التي يشرف عليها ترى أنه يجب توسيع دائرة التشاور بين البلدان الأعضاء بالمنظمة البالغ عددها 125 بلدا، وشدد على ضرورة النظر إلى ملف الهجرة من جانب إنساني والتعامل مع المهاجرين وحمايتهم من كل أشكال سوء المعاملة.
وذكر أن حركة الهجرة حيوية وضرورية لإيجاد توازن في توزيع الأيد العاملة عبر العالم، ومنع الهجرة يؤدي إلى اختلال التوازن بين الدول التي تتوفر على الأيد العاملة، والدول التي توفر مناصب شغل.
وقال إن الدول الصناعية ستبقى دوما بحاجة إلى يد عاملة توفرها الهجرة، مشيرا إلى أن العالم يشهد اليوم حركة 200 مليون مهاجر سنويا، يحولون إلى بلدانهم الأصلية ما مقدراه 300 مليار دولار كل سنة.
وحول هذا الموضوع قال مساهل إن تحويلات المهاجرين من دول الجنوب تفوق بمرتين مساعدات الدول الكبرى لدول الجنوب، وأن حركة المهاجرين بين الدول الأفريقية تفوق بكثير حركة المهاجرين من أفريقيا نحو أوروبا، وذلك بمعدل 20 إلى 30 مرة.
هروب الكفاءات
كشف الدكتور مصطفى خياطي رئيس الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث ان ظاهرة هروب الكفاءات والعقول المتخصصة ما يزال متواصلاً، حيث غادر البلاد 30 ألف البلاد خلال الخمس سنوات الأخيرة بسبب المشاكل الاجتماعية والرواتب الزهيدة وقلة الفرص التي تمكن هؤلاء من الاستثمار في قدراتهم العلمية والتقنية مقابل إغراءات مادية ومالية واجتماعية هامة تمنحها الدول الغربية وفي مقدمتها الترحيب بهم في مراكز البحوث العلمية والشركات الاجنبية.
وأضاف أن فرص عودة تلك الكفاءات إلى البلاد تبقى ضئيلة ما لم تسارع الدولة في وضع استراتيجية تشجع ابناءها على البقاء في الوطن والمساهمة في بنائه وتثمين قدراتهم بالمال والكلمة الطيبة.
ويشير إلي انه لا توجد في الجزائر إحصاءات دقيقة حول العدد الحقيقي للخبرات المهاجرة، في وقت تشير دراسات أجريت هنا وهناك ان الكفاءات الجزائرية التي هاجرت خلال السنوات العشر الماضية إلى الغرب واستقرت اساساً في فرنسا وكندا تجاوز 100الف شخص.
في حين تشير ارقام كشف عنها خبير جزائري آخر مقيم في بريطانيا ويتولى الإشراف على عدد من المخابر الصيدلانية في المملكة المتحدة، خلال نفس الندوة واسمه محمد بوجلال، ان ما لا يقل عن 10آلاف باحث جزائري يتواجدون حالياً بالولايات المتحدة الأمريكية من حاملي الشهادات العليا وينشطون في اكبر الجامعات والمعاهد الامريكية، وان هؤلاء ما زالوا يحملون الجنسية الجزائرية.
وكانت أرقام صادرة عن مصالح وزارة الهجرة والجاليات الثقافية بكندا، كشفت هي الأخرى ان الجزائريين احتلوا العام 2006صدارة قائمة المهاجرين الذين اختاروا مدينة (كيبك) الكندية - الناطقة باللغة الفرنسية التي يحسنها ا لمهاجرون - للاستقرار فيها، حيث قدروا ب8.10% من أصل ال 20519مهاجراً تم إحصاؤهم.
مراحل الهجرة
الحدود الجزائرية الجنوبية أكبر بوابة للمهاجرين غير الشرعيين
ويحدد تقرير المنظمة العالمية للهجرة 3مراحل عرفتها هجرة العقول الجزائرية، تمتد المرحلة الأولى من بداية الاستقلال العام 1962إلى العام 1975، ويشير التقرير ان نسبة العقول المهاجرة في هذه الفترة كانت عادية باستثناء الاطباء الذين هاجروا لممارسة مهنتهم في القطاع الخاص، وان معظمها كان من المعارضين السياسيين الذين استقر القسم الأكبر منهم في فرنسا.
أما المرحلة الثانية فتمتد من العام 1975إلى 1986، وهي المرحلة التي شهدت إرسال اعداد كبيرة من الإطارات العليا إلى الخارج لمواصلة التكوين على نفقة الدولة واعتمد فيها خيار توسيع رقعة البلدان المستقبلة حيث شملت الولايات المتحدة الامريكية وكندا إضافة إلى بريطانيا وبلجيكا واليابان.
ويشير تقرير المنظمة ان ما بعد العام 1986كان تاريخاً مفصلياً في تنامي ظاهرة الهجرة الى الخارج، وبالأخص بعد احداث اكتوبر 1988وهي المرحلة التي شهدت ذروة الصراع الاجتماعي والسياسي في البلاد، هاجر خلالها كثيرون بمن فيهم الذين تابعوا كل مراحل تعليمهم في الجزائر.
أسباب الهجرة
ويري مراقبون أن الأزمة الأمنية لعبت دوراً كبيراً في تزايد الظاهرة، حيث شهدت سنوات التسعينيات، بالأخص الأعوام الأولى التي تلت اندلاع العنف المسلح في البلاد العام 1992على خلفية توقيف المسار الانتخابي الذي حققت فيه الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزاً ساحقاً في انتخابات البرلمان 1991، نزيفاً حاداً في الكفاءات والخبرات والمهارات البشرية لم تشهده الجزائر من قبل، مع فارق صغير فقط وهو توجه عدد كبير من هذه الكفاءات الى دول لم تكن في السابق من الوجهات المفضلة للجزائريين ربما لعامل اللغة العربية، وهي دول الخليج العربي.
وفرت غالبية الأدمغة الجزائرية من العنف الذي حصد مئات الأرواح وكان يركز على فئة المثقفين والأكاديميين والباحثين والكتاب والصحفيين ممن يمثلون صفوة المجتمع، وهو العنف الذي كاد يشل عجلة الاقتصاد، واخر البلد الى عشرات السنين إلى الوراء، وتقلصت معه فرص العمل وشروط الحياة الكريمة الآمنة، حيث بلغت نسب البطالة خلال التسعينيات أرقاماً مقلقة وصلت نسبة 30% وفق إحصاءات رسمية.
البطالة سبب رئيسي
وكشفت دراسة حول الهجرة غير الشرعية،المعدة من قبل مختصين في علم النفس بعاصمة الغرب الجزائري وهران، أن البطالة تعد العامل الأساسي الذي يدفع الشباب إلى اللجوء للهجرة السرية .
حيث يرى 235 شاب من بين 312 تم استجوابهم عبر البلديات الـ 26 التابعة لولاية وهران، بأن البطالة تعتبر السبب الرئيسي لظاهرة الهجرة السرية إلى جانب الفقر و غلاء المعيشة و نقص الثقة في الإدارة العمومية ومؤسسات الدولة، وهو ما يدفعهم إلى المغامرة بحياتهم و البحث الدائم عن ظروف معيشية أحسن في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط.
كما توصلت هذه الدراسة التي بادرت بها مديرية الشبيبة والرياضة لولاية وهران التي تعيش ظاهرة "الحراقة" بالتنسيق مع الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية وقدمت نتائجها الخميس خلال الملتقى الوطني حول "الهجرة غير الشرعية بوهران، توصلت إلى أن نصف الشريحة التي تم استجوابها اعترفت بأنها مغرية بـ "الحرقة" لتحسين المستوى المعيشي.