كثيرة و عظيمة هي حقوق الوالدين — لا سيما الأم - على ولدهما . و قد عطف القرآن الكريم هذا الحق على حق الله تعالى بعدم الشرك به في أربعة آيات :
الآية الأولى :{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } سورة الإسراء — 23 .
الآية الثانية :{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} سورة البقرة — 83 .
الآية الثالثة :{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} سورة النساء — 36 .
الآية الرابعة :{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} سورة الأنعام — 151 .
و قد تواترت الأحاديث شيعة و سنة في الحث على بر الوالدين و الإحسان إليهما , و التحذير من عقوقهما . إلا أن هذا لا يعني صحة سند كل حديث منها — و إن كان مضمونه صحيح . إذ هناك فرق بين صحة السند , و بين صحة مضمون الحديث و معناه و مطابقته للواقع . فليتأمل في هذه النقطة فإنها مهمة و ضرورية .
و من الأحاديث المشهور على الألسن الحديث النبوي ( الجنة تحت أقدام الأمهات ) . و قد اشتهر هذا الحديث على لسان العلماء و الناس أيضاً . يقول الإمام الخميني — أعلى الله مقامه - ( إن الحقوق الكثيرة للأمهات أكثر من أن تحصى، أو أن يؤدى حقها من الشكر، فليلة واحدة تسهرها الأم مع وليدها تفوق سنوات من عمر الأب المتدين، فتجسّد العطف والرحمة في عيونها النورانية بارقة من رحمة وعطف رب العالمين، فالله تبارك وتعالى قد أشبع قلوب وأرواح الأمهات بنور رحمة ربوبيته بشكل يعجز عن وصفه الواصفون، ويعجز عن إدراكه سوى الأمهات؛ وإن رحمة الباري هي التي تجعلهن يقفن ويتحملن بثبات عجيب إزاء المتاعب والآلام منذ استقرار النطف في الأرحام، وطوال فترة الحمل وحتى ساعة الولادة، ثم منذ عهد الطفولة وحتى آخر العمر، وهي المتاعب والآلام التي يعجز الآباء عن تحملها ليلة واحدة. فالتعبير الرقيق الوارد في الحديث الشريف "الجنة تحت أقدام الأمهات حقيقة تشير إلى عِظَم دور الأم، وتُنبّه الأبناء إلى أن السعادة والجنة تحت أقدام الأمهات، فعليهم أن يبحثوا عن التراب المبارك لأقدامهن، ويعلموا أن حرمتهن تقارب حرمة الله تعالى، وأن رضا الباري جلّت عظمته إنما هو في رضاهن )انتهى موضع الحاجة .
أما تحقيق سند هذا الحديث فاعلم أنه حديث لم يرو في الكتب الشيعية المعتمدة و لا من طرقهم . نعم رواه القطب الرواندي — في لب اللباب — مرسلا عن رسول الله — صلى الله عليه و آله - , فرواه عنه الميرزا النوري في مستدرك الوسائل ج 15 ص 180 . و رواه مرسلاً أيضاً الشيخ الطبرسي في تفسير مجمع البيان ج 8 ص 11 . و بهذا يتضح أن مصدر هذا الحديث هو كتب أهل السنة , بل حتى أهل السنة لم ترو هذا الحديث في كتبهم الرئيسية المعتمدة , بل هناك أحاديث قريبة منه سنذكر أحدها , و إليك بعض المصادر مع رأي بعض علماءهم :
روى المتقي الهندي في كنز العمال ج 16 ص 461 [ ( 45439 - ) الجنة تحت أقدام الأمهات ( القضاعي ، خطفي الجامع - عن أنس ) ] انتهى .
و قال الفتني في كتابه تذكرة الموضوعات ص 202 (( في المقاصد " الجنة تحت أقدام الأمهات " صحّحه الحاكم وتعقب بالاضطراب ، وفي الباب عن أنس فأنكر , وعن ابن عباس وضعّف ، ومعناه التواضع للأم سبب دخوله )) انتهى .
نعم روى النسائي في سننه ج 6 ص 11 ( أخبرنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرني محمد بن طلحة وهو ابن عبد الله بن عبد الرحمن عن أبيه طلحة عن معاوية بن جاهمة السلمى أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك فقال هل لك من أم قال نعم قال فالزمها فإن الجنة تحت رجليها ) .
و قال الهيثمى في مجمع الزوائد ج 8 ص 138 ( وعن معاوية بن جاهمة عن أبيه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستشيره في الجهاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألك والدان قال نعم قال الزمهما فإن الجنة تحت أقدامهما . رواه الطبراني ورجاله ثقات ) .
أما محمد ناصر الألباني فقال في إرواء الغليل ج 5 ص 21 (( أما حديث معاوية ، فيرويه ابن جريج ، قال : أخبرني محمد بن طلحة وهو ابن عبد الله بن عبد الرحمن 286 عن أبيه طلحة عنه بلفظ : " أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أردت أن أغزو ، وقد جئت أستشيرك ؟ فقال : هل لك من أم ؟ قال : نعم ، قال : فالزمها ، فإن الجنة تحت رجليها ) . أخرجه النسائي والحاكم ( 2 / 104 و 4 / 151 ) وأحمد ( 3 / 429 ) وابن أبي شيبة أيضا في " مسنده " ( 2 / 7 / 2 ) وقال الحاكم : " صحيح الإسناد " . ووافقه الذهبي . قلت : كذا قالا ، وطلحة بن عبد الله لم يوثقه غير ابن حبان ، لكن روى عنه جماعة ، فهو حسن الحديث إن شاء الله وفي " التقريب " : " مقبول " . وتابعه محمد بن إسحاق بن طلحة به . أخرجه ابن ماجه ( 2781 ) . ... )) .
و الله العالم بحقائق الأمور .
خالد الرواضيه