إن المؤمن مسؤول عن الحكم بالعدل حتى لو كان القرار الذي سيصدره يتعلق بأقاربه .
عند تعريف العدالة، قد تعتقدون أن التصرف بعدل سهل جدًا وأنكم تعدلون دائمًا في قراراتكم ، لكن إذا كان القرار العادل الذي ستتخذونه يتسبب في محنة مادية أو معنوية لقريب لكم أو لأمكم أو أباكم، ترى هل تستطيعون اتخاذ هذا القرار بسهولة ؟ وهل يمكنكم أن تكونوا حياديين وصادقين وعادلين أثناء اتخاذ قرار بحق شخص تحبونه ولكنه انحرف عن سبيل الصواب ؟
قد يتردد معظم الناس أمام هذا التساؤل ، حقيقة أن العدل في مثل هذا الوضع قد يكون صعبًا بالنسبة لكثيرين ، وقد يتصرف المرء بتساهل مع من يحبه أكثر من تساهله مع غيره ، وقد يتجاهل بعض الحقائق في لحظة ما . لكن المهم هو عدم تخلي الإنسان بأي شكل عن العدالة وفي كل الظروف وتحت كل الشروط ، والالتزام بعناية بقول الله تعالى في (الآية 135 من سورة النساء ) : "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين …."
إن الذي يكون شعور الثقة لدى الناس، هو معرفة أن الشخص المقابل سيتخذ موقفًا مؤيدًا للصواب في كل الظروف ، ومن المؤكد أن حماية المقربين ومحاباتهم من أجل الصداقة ورابطة الدم فقط ، ستؤدي إلى حالة من عدم الارتياح وعدم الثقة لدى الأشخاص الذين يتطلعون للعدالة .
لكن الشخص الذي يتصرف وفق الأحكام القرآنية ، يلتزم بالتوصيات التي ذكرها الله تعالى في (الآية 152 من سورة الأنعام) : ….."وإذا قلتم ولوكان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذالكم وصاكم به لعلكم تذكرون" .وهذا التصرف هو أجمل مؤشر على إيمانه القوي بالله وحسن أخلاقه .
إن الحقد على جماعة معينة لا يمنع المؤمنين من العدل
من العوامل التي قد تمنع الإنسان من اتخاذ قرار عادل والتفكير السليم والتصرف بعقلانية، غضبه وحقده على الشخص أو الجماعة المقابلة . وفي الحقيقة أن هذه وجهة نظر منتشرة جدًا في مجتمعات الجاهلية الحديثة ، فبعض الناس قد يمارسون أنواع الظلم وقلة الأخلاق بسهولة ضد الشخص الذي يعادونه ، وقد يتهمونه بما لم يرتكبه ويشهدون ضده حتى لو كانوا يعرفون براءته ، وقد يعيش الناس مظالم كبيرة وبلا ذنب بسبب هذا الموقف العدواني ، فبعض الناس لا يشهدون لصالح الشخص الذي يعادونه على الرغم من معرفتهم ، ولا يكشفون عن دليل قد يكون بأيديهم لإثبات براءة هذا الشخص ، وحتى أن تعرض هذا الشخص للظلم وتعرضه لمصيبة يبعث سرورًا كبيرًا لدى هؤلاء البعض ، وتكون خشيتهم الكبرى من تجلي العدالة وبراءة الشخص الذي يعادونه .
لهذا السبب من الصعب جدًا أن يثق الناس في المجتمع الجاهلي ببعضهم البعض ، ويعيش الجميع خائفين من تعرضهم لسوء من الشخص المقابل ، وبسبب فقدانهم الثقة المتبادلة، يفقدون مع الزمن المميزات الإنسانية مثل التعاون والتسامح والعطف والرحمة والأخوة ، ويصبحون في كره متبادل .
أما المشاعر التي يشعر بها الشخص المؤمن تجاه شخص أو جماعة ، فلا تؤثر أبدًا في قراراته ، ومهما كان الشخص المقابل سيئ الأخلاق وذو طابع عدواني ، فعندما يتحتم على المؤمن أن يصدر قرارًا ، يترك كل هذه المشاعر ويتصرف بعدالة ويصدر قرارًا عادلاً ويوصي بالعدالة ، فمشاعره تجاه ذلك الشخص لا تطغى على عقله وضميره ، ويحثه ضميره دائمًا على الالتزام بأوامر وتوصيات الله تعالى وعدم التخلي أبدًا عن الأخلاق الحسنة ، لأن هذا أمر أبلغه الله للمؤمنين في القرآن حيث تقول سورة المائدة ما يلي :
"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ."(سورة المائدة 8)
كما قالت الآية ، التصرف بعدالة هو الأقرب للتقوى . والشخص المؤمن يعرف أنه سيكسب مرضاة الله عند التصرف بعدالة . وكل إنسان يشهد على حسن أخلاقه يثق بهذا الشخص ويرتاح له ، وقد يمنحه كل أنواع المسؤولية والوظائف بكل راحة . ومثل هؤلاء الأشخاص يحترمون حتى من قبل أعدائهم ، وموقفهم هذا قد يكون وسيلة لإيمان الكثير من الملحدين تيمنًا به .
حياة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام نموذجًا لكل العالم في التسامح والعدل .
إن أفضل مثال بالنسبة لنا في هذا الموضوع هو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الذي أظهر التسامح والرحمة للجميع بدون أي تفرقة ، وهذا كان وسيلة لميل قلوب الكثير من الناس، نصارى ويهود وملحدين ومشركين كانوا يعيشون في ذلك العهد إلى الإسلام .
لا شك أن أفضل مثال بالنسبة للمؤمنين الذين يعيشون في حاضرنا ، هي تطبيقات نبينا المذكورة في القرآن أيضًا ، وكما وجد في ذلك العصر السعيد يوجد أيضًا في المجتمع الذي نعيش فيه ، جماعات من الناس من ذوي المعتقدات المختلفة جدًا ، مثل النصارى واليهود والبوذيون والهندوس والملحدون والمشركون وعبدة الأصنام وعديمو الدين .
إن المسلم ملزم بأن يكون متسامحًا وعفوًا ويتصرف بعدل وإنسانية تجاه الناس الآخرين مهما كانت معتقداتهم ، لأن كل إنسان قد يؤمن ويصبح مسلمًا ويسلم بالله في المستقبل ، ويجب على الشخص المؤمن ألا ينسى هذه الحقيقة ، فالمسؤولية الملقاة على عاتق المؤمنين هي الدعوة إلى دين الله بالحسنى والسلام والتسامح . وقرار تطبيق هذه الحقائق أو عدم تطبيقها ، والإيمان أو عدم الإيمان يعود للطرف الآخر . إن إجبار الشخص على الإيمان ومحاولة فرض بعض الأشياء عليه بالجبر ، تصرف مخالف لأخلاق القرآن الكريم ، والله تعالى ذكر ذلك في القرآن بقوله :
"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ." ( سورة البقرة 256 ).