لم يولد غاضبا على ذمة أمه ، وان كان لم يحظ بفرصة توكيد هذه المسألة من الداية التي نسلته من قراره المكين إلى عالم بلا قرار ؛ عالم ليس لنا ، قال الشهيد ، وترك لنا أن نقرر ما إذا كنا نحن له.
كما أنه عاش مع حس غائر بأنه ليس “هو الحقيقي”
هل ولدت في الرحم الصحيح؟ ، قيل أنه سأل.
هل عشت في الزمن الغلط ؟ ربما….
بيد أنه قرأ ذات يوم في كتاب العجائب:
“في مكان ما ، تعيش قبيلة تطعم الابن الأكبر للبحر كي يهدأ الأخطبوط” ، فقال في نفسه بأنانية وغبطة:
- لست الابن الأكبر.
بعد عام واحد حصل على ساعة يد كهدية للنجاح في امتحان مدرسي، لكنه حين سخر من غباء الأسئلة؛ لدغه عقرب الوقت.
عرف بعدها أن الوطن لا يستحق الموت دائما، ولا بالضرورة ، فلربما يستحق أكثر أن تزرع فيه الشجر، فشن بعضَه الحرب على بعضه… وكانت جرافة البولندي تغتال حقوله قبل أن تذوب في الخرافة، كسفينة ورقية.
أدمن ، لمرحلة وجيزة كرة القدم ، ففاجأه المعلق الرياضي بمنظومة صواريخ “أرض ملعب” ، وجمهور مدجج بالأسلحة… ومن يومها تورط في أحابيل الشطرنج.
أخطر معجزاته كانت نحت ساعة بيغ بن ، وبرج ايفل ، وتمثال الحرية، حين طلب منه معلم الفن أن يشتري النماذج الورقية، ويلصقها على لوح خشبي رقيق، ثم يقوم بتفريغها، بمنشار ذي نصلة تتكسّر كرماد عود الثقاب، وعندما بذل أكبر جهد في حياته، من أجل تفاهة بلا معنى، حصل على برج ايفل مائلا كبرج بيتزا، وعلى ساعة “بيغ بن” ولكن أمامها عوارض خشبية كحظيرة أغنام، أما أقرب شكل لتمثال الحرية ، فكان بشبه ،على نحو غريب، شكل صديقه الشاعر قصي اللبدي حين وقف أمامه ذات يوم ، وقال بنظرات ثابتة كأنها منحوتة في الحجر:
- لقد مزقت كل الكتب في مكتبتي، ولم أبق منها ولو قصاصة.
لكن الأكيد أن الفكرة التي استهوتني دائما هي فكرة أنني لم أكن “أنا الحقيقي” حتى قادني ذاك الافتراض إلى تخيل صيغ واحتمالات عديدة لذاتي الحقيقية التي اختفت ، كما تخيلت، نتيجة خطأ في ترقيم الأسرّة في قسم الولادة.
وهكذا رأيت ذاتي رضيعا معلقا في خرقة على ظهر راعية أغنام سودانية ، وافترضت أنها أمي، وأني نشأت ، وترعرعت محترفا في التسابق مع الغزلان ، ولهذا السبب ظَهَرَتْ عوارضُ حظيرة الأغنام أمام منحوتاتي عندما كنت طالبا، ولم أشترك في الألعاب الأوليمبية لأن سوء فهم نشأ بين فريق بحث كندي في علم الجراثيم وبين الملاريا فأصابني المرض بدلا من أن يصيب الغزال. فأكون لهذا السبب أعيش السنين الفائضة من عمري “أنا المزور” بدلا من عمره “هو الحقيقي” .
لكني استبعدت هذا الاحتمال لا لشيء سوى أني بت مسكونا بلعبة الاحتمالات، كأكثر نجوم الدراما احترافا في تاريخ الخيال من الفن الأول حتى الفن السابع.
وهكذا تركت ذاتي ، المنقوعة بالأوبئة الكندية ، داخل كهف في ولاية بحر الغزال ، وعدت مسرعا إلى قسم الخداج في المستشفى.
رأيت امرأة شاحبة غاضبة تجادل حماتها ، لأنها سمحت لسلفتها أن تعد لها طعام الولادة، مع أنها تعرف أنها عملت لها عملا عند عراف محترف في السحر الأسود ، ووضعته في شوربة الدجاج ولهذا السبب زادت نسبة الفلفل الأسود على الطعام كي تخفي رائحة الحجاب العفنة، وفجأة حملتني “أنا الحقيقي” ، وكنت لما أزل بعد رضيعا، وألقتني في حضن جدتي ثم خرجت ولم تعد.
وهكذا نشأت بائعا للخضار على بسطة جدتي قرب سوق الجمعة في مخيم للاجئين مقاتلا مع وقف التنفيذ.
بدأت مشواري “الفني” سائقا لعربة (بيليا) كنت أوصل فيها بضائع المشترين إلى سياراتهم، وأعود لأستكمل نحت ساعة بيغ بن وبرج ايفل وتمثال الحرية!.
غاضبا من كل شيء، قارئا لكل أنواع الكتب ، وغير راض عن أي شيء ، وبالذات الفلفل الأسود.
أيام وأيام مرت وخيالي يتقلب بين ما أشاء من احتمالات. فكنت ولدا عراقيا تطارده الصواريخ العابرة للقارات لتعلمه حرية التعبير كنت، وكنت ولدا دمشقيا علمه جده أصول العناية بالخيول ، ثم أصيب بشلل نصفي عندما جمحت به فرس وتأخرت سيارة الإسعاف، و”أنا الحقيقي” الآن أتعلم غناء القدود الحلبية كنت، وكنت ولدا مصريا تدرج والدي في الثراء حتى ابتلع ثلث الإقتصاد المصري نتيجة خطة طموحة لتحويل النيل الى ثعبان كوني كنت، وكنت رضيعا مجهول الأصل لامرأة ورطها الموساد في خيانة المقاومة فتبناني جهاز أمن تم تركيبه على مهل استراتيجي، أو على عجل تنفيذي وعلمني كل وسائل تعذيب المقاومين تحقيقا لمعادلة سلام الحرير ، لإنتاج عالم تحكمه دودة القز الإلهية كنت، وكنت ابنا بالتبني لعائلة تقيم في بيت مرتجل في ولاية واشنطن دي سي ، نجوت عدة مرات من حوادث إطلاق مخدرات عشوائية في المدرسة ، ولذاك أعفاني الأستاذ من الفروض المنزلية بما فيها نحت ساعة بيغ بن وبرج ايفل وتمثال الحرية، بيد أني لاحقا أتقنت عزف الكمان، ثم التحقت بوكالة (السي آي ايه)، و”أنا الحقيقي” أدير الآن مختبرا سريا في الطابق السفلي من مبنى شركة لصناعة الأفلام في هوليوود، وأشرف على فريق تم تشكيله ، بشكل كتوم ، من علماء يعملون على تلقيح الجين البشري بنوع من الذرات البللورية ، لإنتاج بشر شفافين كألواح الزجاج، ثم تم تمويل المشروع سرا من وراء ظهر الكونغرس ، وحين انكشف الطابق السفلي جئت إلى البلاد العربية محاضرا في حقوق المرأة ، واكتشفت ذات نبوءة زجاجية أن (المرأة الفلسطينية تعاني من قمع مزدوج من الذكر الفلسطيني ومن جندي الاحتلال)!
أو ربما ” وتلك أغرب احتمالاتي” ربما “أنا الحقيقي” كنت “هي” ربما كنت بنتا ، وقام والدي برشوة الممرضة لاستبدالي بولد ، كي يشبع شغفه بشجرة النسب حتى لو كانت “كأنها رؤوس الشياطين” ، وهكذا حملتني أمي المستبدلة إلى أبي المستبدل ، الذي ظل وجهه كظيما، لا لأنني بنت. بل لأنني لست جميلة في نظره ، مع أن هذه التفصيلة كانت أكثر ما رفضت أن اختلف معه عليه، إذ رأيت أنني أمتلك من خصائص الأنوثة ما هو كفيل بتحويل الحجارة إلى شعراء ، كما أتقنت بسرعة وبداهة فنون عديدة كأن أحوّل خيوط الحرير إلى قصص قصيرة ، وأن أصنع من التوت نبيذا له مذاق كعسل السحاب ، وأفوز بعدة ميداليات ذهبية في القفز الحر، صحيح أنني لم أفلح بنحت ساعة بيغ بن وبرج ايفل و تمثال الحرية ، ولكن لانها ظلت في نظري مجرد استعراض ذكوري أراد فيه الرجال أن يعالجوا تصدع أرواحهم في الحروب، ثم تأخر زواجي؛ لا لأن أخي الأكبر مات بلدغة من زوجته على شكل سوء فهم سريري ، أو لأن أخي الأوسط قضى أغلب عمره في المعتقل، واضطررت لتربية أخي الأصغر كما أحب أن أقول.
لا … لا ، في الحقيقة، تأخر زواجي لأنني ولدت بعاهة عاطفية اسمها “فارس الأحلام”.
أجل لحقيقتي احتمالات … كان أجملها على الإطلاق أن أكون “أنا الحقيقي” هو الرضيع البكر ، الذي رمته القبيلة في البحر كي يهدأ الأخطبوط ، وما أن لامس جسدي سطح البحر حتى تلقفتني الحقيقة، التي لا ينال جدارة معرفتها سوى من يقترب من الموت إلى أن يلامس حتفه، كما تلامس نحلةٌ لبَّ الوردة اليانعة.
هكذا اكتشفت أن ما في البحر لم يكن أخطبوط ، إنما حورية هي الأجمل في تاريخ القصائد منذ أكتشف الإنسان لسانه واستنبتَ الخيال.
بل بلغ من جمالها أن من يراها يختفي لسانه أصلا نظرا لأن طريقة التخاطب في عالمها هي نوع من التخاطر المائي.
إذ ما أن يفكر أحدهم في قول شيء حتى يظهر كلامه على شكل صور على جدران الماء في أعماق البحر، فما قيمة الألسنة اذا؟ وما الذي ستعنيه كل أحرف التشبيه؟ وهكذا تكون منحوتة ساعة بيغ بن وبرج ايفل وتمثال الحرية مجرد كابوس راودني ذات غفوة في كهف مرجاني، لا أكثر ولا أقل ، ومن يومها و”أنا الحقيقي” أعيش في عالم اسمه روح الماء، حيث تمطر السماء فيه ريشا أبيض، كما لا يأكل الناس فيه لأنهم ولدوا بنوع من الطاقة الكامنة، وتفصل عوالمه جدران ملونة تتدفق من الأعلى كأبجدية مضيئة ، ولا يقتل فيه أحد أحدا. بل يشكوه إلى الحورية التي تجلس على عرشها العالي في روح الماء ، فتحكم على المعتدي أن يعاد إلى عالم القبيلة كي ينحت ساعة بيغ بن وبرج ايفل وتمثال الحرية إلى الأبد.
وما أن وصلتُ إلى تلك التفصيلة من احتمالات “أنا الحقيقي” ، في شكل كائن مائي، حتى هزني أخي الأصغر من كتفي وقال:
– يا رجل ما بك؟ هل صرت تنام كالذئب وعيونك مفتوحة؟
ثم ألقى المذياع الصغير الذي يعمل بالبطاريات في حجري وقال:
طلبتَ مني أن أذكّرك بموعد نشرة الأخبار..
وحين ذهب اعتدلت أنا في جلستي على الكرسي الحجري ، وفتحت المذياع ، فبادرني المذيع بالقول:
- هنا لندن… إلى دقات ساعة بيغ بن.
* * *
خالد الرواضيه