بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين رب العرش العظيم
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه البررة الكرام وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين والتابعين ومن تعهم إحسان إلى يوم الدين
أخواني وأخواتي أعلموا أن الناس في ذكر الموت على أقسام
واعلموا رحمكم الله أن منهم المنهمك في لذاته المثابر على شهواته، المضيع فيها ما لا يرجع من أوقاته، لا يخطر الموت له على بال، ولا يحدث نفسه بزوال، واتخذ إلهه هواه، فأصمه وأعماه وأهلكه وأرداه,فإن ذكر له الموت نفر وشرد، وإن وعظ أنف وبعد، وقام في أمره الأول وقعد، قد حاد عن سواء نهجه، ونكب عن الطريق الصحيح، وأقبل على بطنه وفرجه، تبت يداه وخاب مسعاه,وكأنه لم يسمع قول الله جل جلاله: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ,وهذا وأمثاله إن ذكر له الموت تصامم عن ذكره كأن لم يسمع ولم يمكنه من فكره رجاء أن يبلغ ما أمل أو يدرك بعض ما تخيل فعمره ينقص، وحرصه يزيد، وجسمه يخلق ويضعف، وأمله جديد، وحتفه قريب,يحرص حرص مقيم ويسير إلى الآخرة سير مجد كأن الدنيا عنده حق اليقين والآخرة ظن من الظنون.
أَتَحْرِصُ يَا ابْنَ آدَمَ حِرْصَ باقٍ
وتَعْمَلُ طُوْلَ دَهْرِكَ في ظُنُونٍ
وأنْتَ تَسِيْرُ وَيْحَكَ كُلَّ حِيْنِ
وأنْتَ مِن المنُونِ على يَقِيْنِ
وقسم آخر وقليل ما هم من أزيل عن عينيه قذاها، وكشف عن بصيرته عماها، وعرضت عليه الحقيقة فرآها، وأبصر نفسه وهواها، فزجرها ونهاها وأبغضها وقلاها,فلبى المنادي، وأجاب الداعي، وشمر لتلافي ما فات، والنظر فيما هو آت، وتأهب لهجوم هادم اللذات، ومفرق الجماعات، واستعد لحلول الشتات والانتقال إلى محلة الأموات.
ومع هذا فهو يكره أن يشهد وقائعه أو يرى طلائعه وليس يكره الموت لذاته ولا لأنه هادم للذاته، ولكنه يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد، والاكتساب ليوم الحساب,ويكره أن تطوى صحيفة عمله قبل بلوغ أمله، وأن يبادر بأجله قبل إصلاح خلله، وتدارك ذلـله، فهو يريد البقاء في هذه الدار لقضاء هذه الأوطار والإقامة بهذه المحلة بسبب هذه العلة.
هذا لله دره يرجى له المغفرة من الله والسرور والحبور لتوبيخه نفسه واستعظامه لذنوبه ورجائه المغفرة.
وقال ابن السماك إن الموتى لم يبكوا من الموت ولكنهم يبكون من حسرة الفوات فاتتهم والله دارٌ لم يتزودوا منها، ودخلوا دارًا لم يتزودوا لها.
فأية ساعةٍ مرت على من مضى وأية ساعةٍ بقيت علينا والله إن المتفكر في هذا لجدير أن يترك الأوطان، ويهجر الخلان، ويدع ما عز وما هان.
وقال إبراهيم النخعي كانوا يشهدون الجنازة فيرى فيهم ذلك أيامًا كأن فيهم الفكرة في الموت، وفي حال الميت.
وقال مطرف بن عبد الله ابن الشخير عن أبيه أنه كان يلقى الرجل من خاصة إخوانه قد بعد عهده به فلا يزيده على السلام حتى يظن الرجل في صدره عليه موجدة، أي غضب كل ذلك لانشغال فكره بالجنازة وتفكره فيها وفي مصيرها حتى إذا فرغوا منها لقيه وسأله عن حاله ولاطفه وكان منه على أحسن ما عهد وقال الأعمش كنا نشهد الجنازة ولا ندري من المعزى فيها لكثرة الباكين وإنما بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت.
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه البررة الكرام وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين والتابعين ومن تعهم بإحسان إلى يوم الدين .