معناه إيذان وإعلام بحلول الوقت الذي آن للنفس أن تقف بين يدي خالقها تستمع إلى آياته ودلالته التي يقتضي أن تسير عليهما في الحياة، كما تدفع عنها بهذا الوقوف بين يدي الله ما تسرَّب إليها من انشغال بمصالح الحياة ومهمّاتها، فتنسجم وتعود إلى إقبالها على الله، فتعود لها الطمأنينة بقربها من ذلك الجناب العالي مصدر حياة الكون ومبعث حياة الوجود. وتأوي إلى ملاذها إذا أحاطت بها الكروب وموئلها إذا ادلهمت بها الخطوب، فتقف بين يديه تعالى مقبلة عليه، فتتجدّد لها الحياة الطيبة وتحط في بابه جل جلاله ما أنقض ظهرها من الأثقال والأحمال. وتتوهج شعلة الإيمان فيها من بعد أن ذكَّرتها ألفاظ الأذان بما استقر فيها من قبل من تعظيم وإجلال وشهود الإحسان من صاحب الإحسان، خالق الأرض والسماء. وهكذا ففي الأذان دعوة وإعلام وذكرى يتذكر بها المؤمن مشاهدات شهدتها من قبل نفسه وأقَرَّ بها قلبه. فتراه يردّد مع المؤذن ما يتلوه على مسمعه من كلمات، فإذا به بهذه الذكرى وذلك الترديد يدخل في كمالات ذلك الشهود السابق ويعرج في معارج القدس من جديد. يقول المؤذن: الله أكبر.. الله أكبر وتطرق هذه الكلمة مسامع النفس فتذكّرها بشهودها السابق لجلال الله وعظمته وتهيّجها هذه الذكرى وترجع بها إلى ذلك الشهود الجميل الذي كانت شاهدته من قبل، فإذا بها تسمو وتتسامى وقد شاقها ذلك القول إلى اللقاء. فإذا ما قال المؤذن الله أكبر الله أكبر وأعادها ثانيةً قالت معه مصدِّقة وردَّدت معبرة عن شهود جديد خاضت غماره فتقول الله أكبر الله أكبر وهي تسبح في لجج ذلك الجلال الإلهي. وهي ترى أن لا نهاية لذلك الجلال فمهما شهدت من تلك العظمة فهو سبحانه أعظم وأوسع ومهما رأت من جلال الله وعظمته فهو تعالى أكبر وأكبر. وينتقل المؤذن إلى كلمة: أشهد أن لا إله إلا الله.. يقول المؤذن ذلك معبّراً عن شهوده، أنه يشهد أن لا مسيِّر لهذا الكون ولا مدبِّر لشؤونه إلا الله. فبيده تعالى وحده سيْر السموات والأرض وما فيهما، وبيده وحده أمور الكون كله، وبتدبيره وحده يسير ما في الكون كُلٌّ ضمن اختصاصه وفي حدود وظيفته. إنه تعبير يعبّرُ به المؤذن عن مشاهدته النفسية لمعنى هذه الكلمة ويقولها المؤمن من بعده مردداً ألفاظها فيتذكر هو أيضاً إيمانه بها ويتذكَّر مشاهدته السابقة. ويعود إليها المؤذن فيلفظها ثانيةً فإذا بالمؤمن وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله يدخل نفسياً في مجال جديد وشهود جديد يقول هذه الكلمة وهو يشاهد جديداً وتنغمس نفسه مستغرقةً في ذلك الشهود، متقدمةً في هذا المضمار أشواطاً جديدة أوسع بكثير مما كانت عليه من قبل.
فإذا قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله وكرَّرها انطلقت نفس المؤمن سارية إلى البيت الحرام مجتمعة برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلة برفقته على الله فتكون له بذلك صلة وحياة. فإذا أتبع ذلك المؤذن بقوله: حيَّ على الصلاة.. سمعت ذلك منه وهي تشعر وترى أن لا حياة لها ولا حياة للخلق إلا بالصلة بالله فتقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويكرر المؤذن وتكرر معه. ثم يتابع فيقول: حيَّ على الفلاح.. فتقرُّ له وهي ترى أن سعادتها موقوفة على ما تقوم به من أعمال البرّ والفلاح في هذه الحياة، فتلتجئ إلى الله طالبة منه أن يمدّها بالعون على ذلك وهي تقول، لا حول ولا قوة إلا بالله، ويشارف المؤذن أن يختم الأذان فيقول: الله أكبر الله أكبر فتزداد إقراراً بالعظمة والرحمة التي لا حدَّ لها ولا انتهاء.
فإذا قال المؤذن: لا إله إلا الله، عاد هذا المؤمن المستمع فدخل في ذلك الحصن الحصين ورأى أنه وأن الكون كله في قبضة هذا الرب العزيز الرحيم، نواصي الخلق كلهم بيده وهو وحده المسيِّر يسيِّرهم فيما يعود عليهم بالسعادة والخير.
وأخيراً يختم المؤذن بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترافاً بفضل هذا السيد العظيم الذي كان دليلاً لتلك الأنفس إلى الله وسبباً في قربها من الله وشهودها لجلال الله ووصولها إلى ما وصلت إليه من سعادة مدى الحياة. وذلك طرفٌ مما تشعر به النفس المؤمنة إزاء الأذان.