إن انهيار الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن العشرين كان عاملاً مهمًا في تحديد موقع العالم الإسلامي خلال ذلك القرن. وقد تمخض عن تشتت الإمبراطورية العثمانية العشرات من الدول والشعوب المختلفة، بيد أن هذه البنية الجغرافية لم تتمكن من بلوغ الاستقرار والأمن الذين كانا سائدين في العهد العثماني.
إن هذه الأيام التي نعيشها من القرن الواحد والعشرين حُبلى بالمشاكل التي تعاني منها مناطق عديدة في العالم وهي مشاكل تنتظر الحل، وهناك نزاعات كثيرة ما زالت تحتاج إلى التسوية. ولم يكن بالإمكان إعادة التوازن-بالمعنى الكامل- إلى الاختلال الذي طرأ على الأوضاع منذ مستهل القرن العشرين، وأغلب هذه المشاكل موجود في ميادين مختلفة ومناطق متفرقة من بلاد المسلمين. وقد تم التوصل إلى حلول مؤقتة حول بعض المسائل بينما ما تزال مناطق أخرى تتخبط في نزاعات وتوترات مستمرة.
إن قسمًا مهمًا من المسائل التي تنتظر الحل في هذه الأيام له صلة بالأراضي التي يعيش فيها المسلمون، وإلى جانب ذلك فقد تصاعدت في الفترة الأخيرة الحملة التي يقودها القائلون بنظرية "صراع الحضارات"، وهي حملة تسعى إلى جعل المسلمين هدفًا للاتهامات الصادرة عن العديد من الأوساط. وهذا ما كان سببًا في ظهور مخاوف مفتعلة لا داعي لها وتصعيد العديد من التوترات. وجميع هذه القضايا تحتم على المسلمين مرة أخرى طرح الموضوع المتعلق بالإستراتيجية التي ينبغي عليم اتباعها خلال القرن الواحد والعشرين. بيد أن ثمة مسألة جد عاجلة يتحتم على العالم الإسلامي أن يجد لها حلاً فوريًا، وهي مسألة حياتية وأساسية، ألا وهي مسألة غياب وحدة العالم الإسلامي.
تحقيق وحدة العالم الإسلامي
إن عدم قدرة المسلمين في العالم على تحقيق وحدة قوية وفاعلة هي من المسائل التي تمثل نقصًا كبيرًا تسبب في ظهور العديد من المشاكل الأساسية. ولو تحققت وحدة متينة للمسلمين لما وقع المسلمون اليوم في ما هم فيه من المشاكل أو لتمكنوا من حلها في مدة أقصر بكثير مما هو متوقع.
ومن الأسباب المهمة في تشتت المسلمين اليوم هو بعدهم عن الأخلاق القرآنية ووقوعهم تحت تأثيرا التيارات والأفكار البعيدة عن الدين. وبعض المثقفين انخدعوا بالفلسفات والإيديولوجيات التي ظهرت في الغرب وتطورت فيه، وظنوا أن جلب هذه الأفكار إلى البلاد الإسلامية سيقودها إلى التقدم. ومازالت معالم هذا الخطأ التاريخي المدمر واضحة إلى اليوم.
وقد حلت بعض الفلسفات والإيديولوجيات التي تقوم على الأعراف الاجتماعية محل الأخلاق القرآنية المتمثلة في العدل والتضحية والرحمة والتسامح وحرية الفكر وبعد النظر، كما حل التناحر والتشتت مكان النظام والتعاون.
إن انتشار العنف والإرهاب والظلم والغش والتحايل والكذب والفساد الأخلاقي والصراعات والفقر يبين أن الأرض أصبحت ساحة للفتن،وفي مواجهة هذه الأوضاع فقد المسلمون مكانتهم بسبب المشاكل التي تشق صفوفهم. وهذا الظلم والانحطاط قوَّى من شوكة المنكرين لوجود الله تعالى ووحدانيته، ومكّن للمناهج الباطلة التي بنت نفسها على أساس إنكار الآخرة، وأعطاها الفرصة لكي تتطور وتنتشر. وإزاء هذا الوضع ينبغي على ذوي الضمائر الحية النهوض بواجبهم لنشر الخير.
أوّلا: ينبغي على المسلمين أن يبحثوا عن أجوبة للأسئلة التالية، وذلك من أجل إزالة الخلافات التي يمكن أن تنشأ بينهم في أية مسألة من المسائل:
"إلى أي مدى يمكن اعتبار موضوع الوحدة الإسلامية موضوعًا مقضًا لمضاجعنا؟"
"هل هو موضوع لا يمكن الاتفاق بشأنه؟"
"هل من المعقول أن ينشغل الفكر بقضايا متعلقة بالمجتمع الإسلامي بدل الانشغال بمحاربة الإيديولوجيات الجاحدة؟"
إن كل فرد عندما يطرح هذه الأسئلة على نفسه يتوصل إلى أنه من الضروري الابتعاد عن جميع أشكال النزاعات وأنه على المسلمين أن يسعوا جاهدين لتحقيق الوحدة فيما بينهم باعتبارها مسألة ضرورية بالنسبة إليهم.
وإذا كان العالم الإسلامي يريد حقيقة أن يصبح قويًا ومستقرًا ومرفهًا، وإذا أراد أن تعود إليه عظمته السابقة فيكون هو رائد العالم في كل ميدان يمده بالنور فعليه أن يتحرك في إطار الوحدة. وغياب هذه الوحدة هو السبب في ما تعاني منه البلاد الإسلامية من تمزق وتفرق، وهو السبب في عدم قدرة المسلمين على صياغة صوت مشترك، وهو السبب كذلك في بقاء المظلومين من المسلمين بلا نصير يدافع عنهم. فالنساء والأطفال والشيوخ في كل من فلسطين وكشمير وتركستان الشرقية ومورو وفي أماكن كثيرة أخرى ينتظرون من يخلصهم من المظالم التي يعانون منها. ومسؤولية هؤلاء الأبرياء تقع على عاتق العالم الإسلامي قبل أي طرف آخر. وينبغي على المسلمين ألا ينسوا قول النبي عليه الصلاة والسلام "المسلم أخو المسلم لا يَظلمه ولا يُسلمه".
إن على المسلمين في العالم أن ينسوا خلافاتهم ويدعوا تفرقاتهم ويتذكروا أنهم جميعا "إخوة"، وعليهم أن يكونوا نموذجًا للعالم بفضل الأخلاق العالية التي تفرضها عليهم هذه الأخوة. فالأخوة التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض هي من لطف الله تعالى ونعمه. والمسلمون الصادقون عليهم أن يشكروا هذه النعمة ولا ينسوا أمر الله تعالى "ولا تفرقوا":
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ...) آل عمران: 103
بيد أنه يتوجب ألا ننسى أن ما يقوي من صف المؤمنين هو إيمانهم وإخلاصهم، فالصداقة الحقيقية والتكافل الحقيقي لا يتأسسان إلا على قواعد راسخة من الإيمان الصادق. والمؤمنون لا ينتظرون من بعضهم البعض أية مصلحة أو منفعة، فهم متحابون لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته، مُتصافون ومتحدون لوجه الله. ومصدر قوة هذه الوحدة إنما هو محبة الله وخشيته، وهو ما يعصمها من الانهيار والضعف. وهكذا فإن هذه الوحدة المتينة سوف تكسب المسلمين قوة فريدة.
إن المسلمين ينظرون إلى الآخرين بعين المحبة والرحمة والشفقة، وأما الذين يقاسمونهم العقيدة نفسها ويؤمنون بالقرآن الكريم وينزلون عند أوامر الله تعالى ويتبعون سنة نبينا صلى الله عليه وسلم فهم يعتبرونهم أخوة لهم وهم أولياء لبعضهم البعض. وما يتوجب عمله هو البعد عن التحزب بسبب بعض الاختلافات الثقافية والفوارق في التقاليد والأفكار ودعم فكرة الوحدة والتآلف بدل التركيز على هذه المسائل والتذكير بها في كل مناسبة. وعلى المسلمين أن يدعموا التكافل فيما بينهم وأن يبدوا قدرًا كبيرًا من التسامح في المواضيع المختلف بشأنها وأن يعاملوا بعضهم البعض بالحسنى. وعلى المسلمين المخلصين والمفكرين والمثقفين المعروفين بصفة خاصة أن يبذلوا قصارى جهدهم لإقامة الوحدة ومد جسور التعاون بين المسلمين. وينبغي أن يُقام تعاون بين جميع المسلمين في العالم على أساس المحبة والاحترام والرحمة والتسامح.
إن حماية أمن جميع المسلمين في العالم وحماية أمن الإنسانية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تشكيل صوت وحيد يكون ممثلاً للمسلمين في الساحة السياسية العالمية.
وعلى العالم الإسلامي أن يصبح كتلة عسكرية وسياسية واقتصادية موحدة.
نموذج الاتحاد الأوروبي
يمكن اعتبار الاتحاد الأوروبي نموذجًا بالنسبة للعالم الإسلامي فيما يتعلق بالوحدة التي يسعى إلى تحقيقها.
من خصائص الاتحاد الأوروبي أن جميع الدول المكونة له مازالت محافظة على سيادتها الوطنية وأنظمتها الإدارية الخاصة بها والآليات الخاصة بالدولة، غير أنه وإلى جانب ذلك فقد تعاقدت هذه الدول على مجموعة من القيم التي تؤسس "الثقافة الأوروبية". وهذه القيم المشتركة هي التي بني عليها التعاون في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي، وهو ما مكَّن من إيجاد إدارة قانونية مركزية تدير هذا التعاون.
وبالنسبة إلى الاتحاد الإسلامي، فينبغي أن تحافظ كل دولة من الدول الأعضاء على استقلالها الوطني وحدودها القومية، وبالتالي يكون بناء يحفظ لكل دولة حقوقها ومصالحها الوطنية. ولكن هذه الدول ذات السيادة توحدها رؤية مشتركة وهي "الثقافة الإسلامية". وهذه الرؤية ينبغي أن تشكل سياسة موحدة ترعاها مجموعة من الأجهزة والقرارات. وليس الهدف هو إنجاز وحدة عضوية بين الدول وإنما تحقيق الوحدة في إطار السياسة والمصالح المشتركة. والنجاح في إنجاز هذه الخطوات هو مرحلة مهمة في إقامة هذا الاتحاد.
وفي الوقت الحاضر فإن منظمة المؤتمر الإسلامي هي أكبر منظمة إسلامية فاعلة-وذلك بالنظر إلى عدد الدول الأعضاء وإلى المساحة الجغرافية التي تشملها- وينضوي تحت سقفها 56 دولة إسلامية. وهناك إلى جانب هذه المنظمة أشكال أخرى من التعاون التجاري والعسكري بين عدد من الدول الإسلامية التي تعيش في محيط جغرافي واحد، كما توجد مجموعة من التحالفات الإقليمية. ولا شك أن كل واحدة من هذه المنظمات تقوم بدور مهم ويعتبر وجودها مفيدًا جدًا. بيد أن العالم الإسلامي في حاجة إلى اتحاد أكثر شمولاً تكون له هيئات دائمة وتكون له صلاحية اتخاذ قرارات ملزمة وينتهج سياسة مشتركة يسعى إلى تطويرها ويطبق تلك السياسة بشكل حازم، ويكون الصوت الناطق باسم كافة المسلمين في العالم. وهذا الاتحاد لا يُعنى فقط بقضايا مناطق معينة بل يسهر على مصالح المسلمين في كل مكان ويجتهد في البحث عن حلول لمشاكلهم. ومجالات التعاون في هذا الاتحاد تشمل الميدان الاقتصادي والعسكري والاجتماعي. وبفضل هذا الاتحاد يتم توفير مناخ للتفاهم والاتفاق بين البلدان الإسلامية، كما يتم تعزير روح التعاون بينها. وعلى هذا النحو تكون مسألة الثقة بين الدول الأعضاء قد حُلّت في المقام الأول، وفي مرحلة لاحقة هناك مجالات كثيرة للتعاون يتم العمل فيها، وهذا من شأنه أن يرفع مستوى الرفاهية في الدول الأعضاء. ومن هذا المنطلق فإن العالم الإسلامي كله سيتحرك كالجسد الواحد فيما يتصل بالقضايا التي تهمه سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وبالتالي يصبح بالإمكان تطوير الإستراتيجيات بما يخدم مصالح المجتمعات الإسلامية.