"وقفة الرجالة" بين الشعب والقائد
23 يوليو
تنظيم الضباط الأحرار
محيط : تمر الذكرى السابعة والخمسون على ثورة 23 يوليو / تموز 1952 ويتذكرها الشعب المصري والأمة العربية لاستعادة أمجاد تفوق إرادة التغيير على سلطات القمع والفساد لتخط بحروف من نور سجلا مشرفا من تاريخ النضال الوطني المشرف بعد أن تجرع المصريون كأس الفقر والذل وحرموا من كافة حقوقهم وحل المفسدون مكان المصلحون، فما كان من أبناء الشعب إلا أن أعلنوا ثورتهم ضد البلاط الملكي الذي كان على رأسه الملك فاروق وحاشيته التي عاثت في أرض الوطن خرابا.
وتكمن روعة هذا الحدث ـ الذي قلب نظام أمة وليس حكما فقط ـ أنها كانت ثورة بيضاء لم تسقط خلالها قطرة دم واحدة كما كانت الشرارة التي انتفضت على إثرها دول العالم الثالث ضد الاستعمار رافعة رايات الحرية والاستقلال، كما ضربت الحركة مثالا رائعا في دقة التنظيم من أجل الهدف النبيل.
حيث حدد تنظيم الضباط الأحرار ـ الذي كان يتزعمه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ـ ساعة الصفر ليلة الأربعاء 23 يوليو 1952 علي أن تنطلق من القاهرة ومنطقة ثكنات الجيش بين العباسية ومصر الجديدة وتشترك في ذلك وحدات من جميع أسلحة الجيش الموالية لتنظيم الضباط الأحرار مصحوبة بعدد من الدبابات والمصفحات والسيارات وبالفعل احتلت تلك الوحدات المراكز العامة في منطقة الثكنات وحاصرت سلاح الحدود والمطارات وبعض السرايا كما سيطرت على محطة السكك الحديدية ومصلحة التلغرافات والكباري الهامة المؤدية إلي العاصمة.
وسارع الضباط الأحرار إلى نشر بيان إذاعي للشعب جاء فيه : " لقد تآمر الخونة على الجيش وتولي أمره إما جاهل أو فاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها وعلي ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولي أمرنا داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم ولابد أن مصر كلها ستلقي هذا الخبر بالابتهاج والترحيب".
وبحسب المراقبين لم يستطع في هذه اللحظات ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا التدخل واعتبرها مسألة داخلية لا تخص بريطانيا في شيء حتى لا يتورط مع الجيش والشعب في معارك طاحنة وكان امتناع الدول الأجنبية عن التدخل بمثابة انتصار للثورة.
الملك يتنازل
وفي الـ 26 من شهر يوليو، تقدم الضباط الأحرار بإنذار إلى علي ماهر الذي كان يرأس الوزارة وقتها طالب بتنازل الملك عن العرش نتيجة لسوء تصرفه وعبثه بالدستور وامتهانه إرادة الشعب وكرامته وسوء سمعة مصر ، فأصدر الملك الأمر الملكي 65 سنة 1952 مقررا تنازله عن العرش وكان آخر أمر ملكي يصدره وأصبحت السيادة لرجال الثورة وتمت مصادرة أموال فاروق التي بلغت 24 قصرا و48 ألف فدان مع اليختين الملكيين.
وعلى الفور قرر رجال الثورة أن يكون نظام حكم مصر جمهوريا وعن طريق الاستفتاء العام كما قرروا إسقاط دستور 1923 وفي 9 سبتمبر 1952 أصدر مجلس قيادة الثورة قانون الإصلاح الزراعي الذي حدد نصاب الملكية الزراعية بمائة فدان للفرد وما يزيد عن هذا تستولي عليه الحكومة وتم توزيع الأراضي المستولي عليها علي صغار الفلاحين بمساحات تتراوح بين فدانين وخمسة أفدنة يؤدي ثمنها مع فائدة سنوية تبلغ 3% علي أقساط ثانوية في فترة ثلاثين سنة وذلك لإنعاش الملكيات الصغيرة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الضباط الأحرار لم يكن يجمعهم من رابط سوي الانتماء إلي المؤسسة العسكرية بمختلف فروعها وأجنحتها، والسخط علي الأوضاع العامة في البلد ، بينما هم من الناحية الفكرية أو الأيدلوجية يمثلون خليطا من اليمين واليسار فالضابط عبد المنعم عبد الرءوف ينتمي للإخوان المسلمين، والضابط خالد محي الدين كان ينتمي للتيار اليساري.
وآلت زعامة هذا التنظيم إلي اللواء محمد نجيب رئيس مجلس إدارة نادي الضباط بما يمثله الرجل من ثقل معنوي ومن مكانة داخل تنظيم الجيش ومن وطنية لا تقبل التشكيك، بينما كان القائد والمحرك الفعلي للتنظيم هو البكباشي جمال عبد الناصر صاحب المهارات التنظيمية والقدرات الشخصية الواسعة والذي صار فيما بعد رجل ثورة يوليو الأول.
الرئيس الراحل جمال عبد الناصر
وبعد نجاح ثورة 23 يوليو وتنازل الملك فاروق عن العرش ، أعلن تنظيم الضباط الأحرار عن قيام مجلس قيادة الثورة لإدارة الأمور خلال فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات ، وتألف مجلس قيادة الثورة من الضباط: جمال عبد الناصر، أنور السادات، حسن إبراهيم، حسين الشافعي، جمال سالم، زكريا محيي الدين، صلاح سالم، عبد الحكيم عامر، عبد اللطيف البغدادي، خالد محيي الدين، محمد نجيب، كمال الدين حسين، كما انضم إلى مجلس قيادة الثورة في أوقات أخرى: يوسف صديق، عبد المنعم أمين، عبد المنعم عبد الرءوف.
وقام المجلس باختيار محمد نجيب ليكون أول رئيس لجمهورية مصر العربية بعد إلغاء الملكية إلا أنه سرعان ما دبت الخلافات بين نجيب وأعضاء مجلس قيادة الثورة وأرجع البعض السبب في ذلك إلى رغبة نجيب في الأخذ بالديمقراطية ، بينما أرجع البعض الآخر السبب إلى علاقة نجيب بالإخوان المسلمين ولذا سارع المجلس إلى إعفائه من منصبه بعدما ترددت أقاويل عن محاولة لاغتيال جمال عبد الناصر على يد الإخوان المسلمين وهو يخطب في ميدان المنشية بالإسكندرية في 26 أكتوبر 1954 ، وألغي مجلس قيادة الثورة بانتهاء فترة الانتقال وصدور الدستور في شهر يونيو 1956، حيث تولى عبد الناصر رئاسة الجمهورية.
أسباب الثورة
ووفق آراء المحللين فقد تعددت أسباب ثورة يوليو ما بين استمرار الملك فاروق في تجاهله للأغلبية واعتماده على أحزاب الأقلية ، وتقليص حجم وحدات الجيش الوطني بعد فرض الحماية البريطانية على مصر وإرسال معظم قواته إلى السودان ، وتزويده بأسلحة فاسدة في حرب 1948 ، ما تسبب بالهزيمة.
كما كان من بين الأسباب ، إغلاق المدارس البحرية والحربية ، وسوء الحالة الاقتصادية، والظلم وفقدان العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب وسوء توزيع الملكية وثروات الوطن ، هذا بجانب إسراف وبذخ الملك فاروق وحاشيته في الوقت الذي كان يعاني فيه الشعب من الفقر والاحتلال.
المبادئ الستة
وضعت الثورة ستة مبادئ سعت لتحقيقها وهى القضاء على الاستعمار البريطاني لمصر والقضاء على الإقطاع والاحتكار والقضاء على الملكية و إقامة عدالة اجتماعية وبناء جيش مصري قوي وحياة ديمقراطية سليمة.
وكانت السمة المميزة للثورة أنها ثورة بيضاء خلت من العنف وحملت على أكتافها ليس هموم المصريين فقط وإنما هموم المظلومين في كل مكان ولذا اعتبرت من أعظم الثورات في تاريخ البشرية.
كرامة الفقراء
قبل الثورة ، عانى الشعب المصري من الظلم والاستعباد وفقدان العدالة الاجتماعية وكانت الفجوة شاسعة للغاية بين طبقات المجتمع ، حيث سيطرت حفنة قليلة من كبار الإقطاعيين على الأرض الزراعية في مصر وعانى الفلاحون من سطوتهم فكان الإقطاعيون يملكون الأرض ومن عليها ، كما اقتصر التعليم على الأغنياء في ظل نظام ملكي فاسد كان ينفق ببذخ شديد على حفلاته الخاصة.
هذا بجانب أن الغالبية العظمى من المصريين كانوا يشعرون بالمهانة حينما يلتحقون بالجيش ليس لأنهم لا يرغبون في أداء واجبهم الوطني بل لأن هذا الواجب كان يقتصر على الفقراء وحدهم دون الأغنياء القادرين على دفع مبالغ مالية مقابل إعفائهم.
في ظل تلك الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية وبسبب فساد الحكم وفضيحة الأسلحة الفاسدة في حرب 1948 وحريق القاهرة وقمع المظاهرات الطلابية التي تطالب بالاستقلال ، انطلق الضباط الأحرار ليأخذوا بيد الشعب المصري من عصر الاستعباد إلى ثورة وطنية أعادت الحرية وحققت العدالة الاجتماعية.
لقد كان من أبرز إنجازاتها محليا ، استرداد الكرامة والاستقلال والحرية المفقودة على أيدي المستعمر الإنجليزي، إلغاء النظام الملكي وقيام الجمهورية، توقيع اتفاقية الجلاء بعد أكثر من سبعين عاما من الاحتلال، تأميم قناة السويس، بناء السد العالي، إقرار مجانية التعليم، القضاء على الإقطاع، تأميم التجارة والصناعة التي استأثر بها الأجانب لعقود، إلغاء الطبقات بين الشعب المصري، تحرير الفلاح بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، نشر العدالة الاجتماعية ولعل تلك النقطة بالذات هي التي تدفع المصريين الآن للحنين بقوة لأيام الثورة.
الملك فاروق لحظة رحيله عن مصر
ويرى المراقبون أنه ورغم كل هذه الإنجازات، ما زالت ثورة يوليو تتعرض لمحاولات تشويه دورها وأدائها وزعامتها التاريخية واللافت أن ثمة من انتموا إليها في حقبتي الستينيات والسبعينيات، دخلوا خندق خصومها بفعل تجاوبهم مع عمليات غسيل مخ قامت بها دوائر معادية للثورة ودفعت وما زالت تدفع الملايين لاكتساب أعداء ليوليو من داخلها وهو الأمر الذي استجابت له عشرات الرموز.
ومهما يكن من أمر وعلي الرغم من هذه المحاولات، فان الثورة ما زالت فعلا تاريخيا قائما، بصماته محفورة في الذاكرة الوطنية والقومية ولعل المؤشر المهم في هذا السياق يتمثل في ظهور صور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في أي مناسبة أو تظاهرة في العواصم العربية وكأنها تسترجع العبارة المأثورة "في الليلة الظلماء يفتقد البدر".
وان كان ثمة من ينتقد التجاوزات الأمنية لنظام يوليو فان المرء لا يقر أبدا بهذه التجاوزات رغم أنها كانت ضمن إجراءات لتأمين ثورة وليدة وضعت التغيير عنوانا رئيسيا لحركتها فاحتشد الخصوم في الداخل بل أن بعضهم تحالف مع أعداء الوطن وحاولوا إجهاض يوليو التجربة والمشروع والقيادة واللافت أن هناك من يحاكم يوليو وفق معطيات وقواعد الراهن خاصة فيما يتعلق بالمسار الديمقراطي.
بيد أن ما لا يمكن إنكاره هو أن الثورة وضعت هذا المسار ضمن مبادئها الستة وبدأت بما يطلق عليه بالاشتراكية الاجتماعية كنقطة انطلاق نحو الديمقراطية السياسية في مرحلة لاحقة باعتبار انه ليس بوسع الجائع أن يشارك في التصويت أو في أي عملية سياسية أي أنها بدأت بتوفير الخبز أولا تمهيدا لبلورة سياقات الحرية المطلوبة فيما بعد وهو ما تحقق علي الأقل جزئيا في المرحلة التي أعقبت مرحلة عبد الناصر وان كانت المطالبة بتوسيع الهامش الديمقراطي مازالت ملحة من كافة القوي السياسية بما في ذلك المنتمون لثورة يوليو.