روائح كريهة لا تطاق، مياه مجاري قذرة تحاصر المكان وتشق بركاً ومستنقعات، قطع غيار لحوم مجهولة تباع في أوان لا تناسب حتى الحيوانات، وجوه بائسة تطارد كل من تسول له نفسه الاقتراب من المكان سواء للتصوير أو لأي غرض سوى الشراء.. هذه باختصار أولى المشاهد التي يصادفها كل من تسول له نفسه ويزور المجزر الآلي بالبساتين .
البداية
العالم كله لا يتحدث إلا عن مصيبة واحدة: طاعون الخنازير ـ الذي يهدد بنشر وباء عالمي ـ ومصر باعتبارها مأوى لنحو 500 ألف خنزير باتت أقرب إلى الخطر الداهم، وقرار صادر عن أعلى سلطة بالدولة يقضي بالتخلص من جميع الخنازير.. لذلك حسمت شبكة الإعلام العربية "محيط" أمرها وقررت الانتقال للمجزر الآلي بالبساتين، وهناك رأينا ما لم نكن نحلم برؤيته وسمعنا ما لم نكن نتصور سماعه.. والتفاصيل في السطور الآتية:
سيدة منتفخة اقتربت منا لتسألنا بصوت أجش ـ يمتلئ بالحشرجة التي لا ندري إن كانت ناتجة عن تعاطي اللحوم التي تبيعها أم تعاطي شيء آخر ـ : "بتعمل ايه هنا يا باشا وعمال بتصور في الناس ليه؟".. قالتها بطريقة أصابتنا بحالة شرود لعدة ثوان قبل خروج الرد المناسب في مثل هذه الحالات، ووجدتني أصارحها ـ وبراءة الأطفال في عيني ـ لا أبدا أنا صحفي وأعمل تحقيقا عن ذبح الخنازير في هذا المجزر.
فعاجلتني بسؤال حاسم جديد: طيب مش تستأذن مننا قبل ما تصورنا وتخش البيت من بابه، وهنا التقطت أنفاسي ورددت عليها بلهجة المعتذر: نعم عندك ألف حق كان واجب علي أخد الإذن قبل ما أصور، عموما الغلط مردود.
وأردفت قائلا: ممكن بقى تقولي لي أنت هنا بتعملي إيه، فأجابت والحسرة تتطاير من بين شفتيها الغلاظ: بأبيع "سقط" البهايم، ويقصد بها قطع غيار وأجهزة الذبائح من رجول وطحال وفشة وكرشة وخلافه، فتمالكت الشجاعة وسألتها: وإيه رأيك في مسألة ذبح الخنازير في المجزر، فردت وكلها أنفة وشمم، "جاتهم القرف" أنا باسمع اسمهم باحس أني "هارجع" هو احنا ناقصين بلاوي، ما يروحوا يعدموها ويريحونا.
وطبعا أعلنت تأييدي الكامل لكل ما تقوله "سيدة المذبح"، وسألتها من جديد: طيب انتم هاتضمنوا إزاي عدم اختلاط قطع اللحوم التي تقومون ببيعها بأجزاء لحم الخنازير، فأجابتني برد أفحمني قائلة: "يا باشا احنا ماعندناش مشكلة دي حاجة نعرف نميزها من حجم هذه القطع التي نحفظها عن ظهر قلب، الدور والباقي على مصانع اللانشون واللحمة المفرومة اللي ها تشتغل على ودنه غش للزباين، وتقصد أن هذه المصانع ستبيع لحوم الخنزير على أنها لحوم عادية".
أما المعلم "آبا" ـ نعم اسمه آبا ويزاحم سيدة المذبح في بيع قطع غيار الحيوانات ـ فهو ناقم على ظروف القذارة التي يوجد بها المجزر والباعة وتساءل في لهجة معترضة: أبوس إيدك يا بيه مش ممكن توصل صوتنا للمسئولين ييجوا يزوروا المنطقة دي من الخلف وليس من الأمام ـ يقصد من مدخل البساتين وليس الأوتوستراد ـ يمكن ينظفوها لنا، ثم تراجع عن كلامه قائلا: ولا أقول لك بلاش أحسن ينظفوها مننا ويقطعوا عيشنا.
وداخل المجزر التقينا (أ. ح.) ـ جزار بالمذبح ـ والذي أعرب عن بالغ استيائه من اليوم الأسود الذي أجبره على ممارسة هذه المهنة بسبب إجباره على الاشتراك في عمليات ذبح الخنازير، مؤكدا وجود عنبر واحد خاص بذبحها في الأيام العادية كانت تتولى ذبح في حدود 20 "حلوف" يوميا، أما الآن فتم تخصيص 4 عنابر لمواجهة الأعداد الغفيرة المقرر التخلص منها، وهذه عملية مقززة جدا ولا أدري لماذا يذبحونها ويخزنون لحومها، ما يعدموها ويخلصونا منها كما فعلوا مع الفراخ.
ولعل أخطر ما يشد انتباه من يزور منطقة المجزر الآلي هو مشهد اللحوم التي تباع على الأرصفة في بيئة خصبة جدا للميكروبات والأوبئة، كذلك طريقة نقل اللحوم على "التروسيكل" المكشوف الذي يحيط الصدأ والقذارة بكافة جوانبه، كل هذا تحت سمع وبصر مسئولي الصحة والتموين الذين غضوا الطرف منذ سنين عن هذه الكوارث المدمرة للصحة.
وأمام المجزر شاهد مراسل "محيط" مراسلي وكالات الأنباء يحاصرون مدخل المجزر الذي تحول إلى مزار عالمي تتجه إليه كافة وسائل الإعلام لتشاهد ما تفعله مصر إزاء طاعون أنفلونزا الخنازير، وفي إجراء غير متوقع سمحت إدارة المجزر للمراسلين الصحفيين بالولوج إلى العنابر لمشاهدة كيفية التعامل مع هذه الخنازير وإجراءات الحماية التي يتم توفيرها في هذا الشأن.