الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم .. مالك يوم الدين ..
الحمد لله الكريم الوهاب .. الحمد لله الرحيم التواب .. الحمد لله الهادي إلى
الصواب .. مزيل الشدائد وكاشف المصاب ..
الحمد لله فارج الهم .. وكاشف الغم .. مجيب دعوة المضطر .. فما سأله سائل فخاب ..
يسمع جهر القول وخفي الخطاب .. أخذ بنواصي جميع الدواب .. فسبحانه من إله عظيم ..
لا يماثل .. ولا يضاهى .. ولا يرام له جناب .. هو ربنا لا إله إلا هو .. عليه
توكلنا .. وإليه المرجع والمتاب ..
وسبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء ..
واستأثر باستحقاق البقاء ..
وأذل أصناف الخلق بما كتب عليهم من الفناء ..
وأشهد أن لا إله إلا الله ..
أما بعد ..
حدائق الموت ؟
تلك القبور التي غيبت فيها أجساد تحت التراب .. تنتظر البعث والنشور وأن ينفخ في
الصور ..
اجتمع أهلها تحت الثرى .. ولا يعلم بحالهم إلا الذي يعلم السر وأخفى ..
نعم ..
إنه الموت ..
أعظم تحدٍّ تحدى الله به الناس أجمعين ..
الملوك والأمراء .. والحُجّاب والوزراء .. والشرفاء والوضعاء .. والأغنياء والفقراء
..
كلهم عجزوا أن يثبتوا أمام هذا التحدي الإلهي { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت
إن كنتم صادقين }
أين الجنود ؟ أين الملك ؟ أين الجاه ؟
أين الأكاسرة ؟ أين القياصرة ؟
أين الزعماء ؟
أتى على الكـل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القـوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلكٍ ومن مَلِكٍ كما حكى عن خيال الطيف وسنان
أنبه على تسع مسائل هامة تتعلق بالجنائز والقبور ..
المسألة الأولى :
أن الموت إذا جاء فلا يؤخر لحظة واحدة .. ولا يقدم ..
قال الله : { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً } ..
ولا أحد يعلم متى يموت .. ولا أين سيموت ..
ذُكر أن وزيراً جليل القدر .. كان عند داود عليه السلام ..
فلما مات داود .. صار وزيراً عند سليمان بن داود ..
فكان سليمان عليه السلام يوماً .. جالساً في مجلسه في الضحى ..
وعنده هذا الوزير ..
فدخل عليه رجل يسلّم عليه ..
وجعل هذا الرجل يحادث سليمان .. ويحدّ النظر إلى هذا الوزير ..
ففزع الوزير منه ..
فلما خرج الرجل .. قام الوزير وسأل سليمان .. وقال :
يا نبي الله ! من هذا الرجل .. الذي خرج من عندك ؟ ..
قد والله أفزعني منظره ؟
فقال سليمان : هذا ملك الموت .. يتصور بصورة رجل .. ويدخل عليَّ ..
ففزع الوزير .. وبكى .. وقال :
يا نبي الله .. أسألك بالله .. أن تأمر الريح فتحملني إلى أبعد مكان .. إلى الهند
..
فأمر سليمان الريح فحملته ..
فلما كان من الغد .. دخل ملك الموت على سليمان يسلم عليه كما كان يفعل ..
فقال له سليمان : قد أفزعت صاحبي بالأمس .. فلماذا كنت تحد النظر إليه ؟
فقال ملك الموت : يا نبي الله .. إني دخلت عليك في الضحى .. وقد أمرني الله أن أقبض
روحه بعد الظهر في الهند فعجبت أنه عندك ..
قال سليمان : فماذا فعلت ؟
فقال ملك الموت : ذهبت إلى المكان الذي أمرني بقبض روحه فيه .. فوجدته ينتظرني ..
فقبضت روحه ..
{ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب
والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } ..
ومن مات فإنه لا يرجع من موته .. ولا يخرج من قبره حتى ينفخ في الصور يوم القيامة
..
فمن ادعى أن أحداً من الأئمة أو الأولياء أو الأنبياء .. يرجع بعد موته .. فقد قال
بأعظم البهتان .. وصار من أنصار الشيطان ..
* * * * * * * * * *
المسألة الثانية :
أن عذاب القبر ونعيمه ثابت بالكتاب والسنة ..
قال تعالى : { وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً وعشياً
ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } ..
وقال تعالى عن المنافقين : { سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم }
.. قال ابن مسعود وغيره : العذاب الأول في الدنيا .. والثاني عذاب في القبر .. ثم
يردون إلى عذاب عظيم في النار ..
أما الأحاديث في إثبات عذاب القبر ونعيمه .. فهي كثيرة .. بل قد صرح ابن القيم
وغيره أنها متواترة .. وبين يدي أكثر من خمسين حديثاً في ذلك ..
فمنها ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين .. فقال : إنهما ليعذبان وما
يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة )
..
ومنها ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه في الصلاة : ( اللهم
إني أعوذ بك من عذاب القبر .. ) ..
* * * * * * * * * *
المسألة الثالثة :
أن عذاب القبر ونعيمه أمور غيبية .. لا تقاس بالعقل .. والإيمان بالغيب من أهم صفات
المؤمنين .. كما قال تعالى : { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين *الذين يؤمنون بالغيب } ..
قال ابن القيم رحمه الله : ومما ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ .. فكل
من مات وهو مستحق للعذاب .. ناله نصيبه منه .. قُبر .. أو لم يُقبر .. فلو أكلته
السباع .. أو أحرق حتى صار رماداً .. ونسف في الهواء .. أو صلب .. أو غرق في البحر
.. وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور ..
* * * * * * * * * *
المسألة الرابعة :
من المحرمات التي تقع من بعض الناس .. والنساء خاصة .. ما يقع من العويل والنياحة
والصراخ ..
ففي الصحيحين .. قال صلى الله عليه وسلم : ليس منا من ضرب الخدود .. وشق الجيوب .. ودعا
بدعوى الجاهلية ..
وفيهما .. قال صلى الله عليه وسلم: ( النائحة إذا لم تتب قبل موتها .. تقام يوم القيامة .. وعليها سربال من قطران .. ودرع من جرب ) ..
فعلى من أصيب بموت حبيب .. أن يصبر ويحتسب .. وليبشر بالأجر العظيم على صبره ..ففي
الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : ما لعبدي المؤمن عندي جزاء .. إذا قبضت
صفيه من أهل الدنيا .. ثم احتسبه .. إلا الجنة ..
* * * * * * * * * *
المسألة الخامسة :
زيارة القبور مشروعة .. ويكون قصده من الزيارة الاعتبار والاتعاظ .. دون قصد التبرك
بالقبر .. أو بتربة القبر .. أو الانتفاع بالمقبور ..
ولا يجوز أن يخصص يوماً معيناً للزيارة .. لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خصص
أياماً للزيارة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .
وبعض الناس يقرأ الفاتحة عند زيارة القبور.. وهذه من البدع .. إذ لم يثبت عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قرأ شيئاً من القرآن عند القبور .. بل كان يدعو للأموات ويستغفر لهم .
ولا يجوز السفر لزيارة قبر من القبور ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى
ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ) متفق عليه .
* * * * * * * * * *
المسألة السادسة :
من المخالفات والبدع في الجنائز :
• وضعُ الزهور على الجنازة أو القبر ، وهذا تشبه بالكفار في دينهم وشعائرهم ، وقد
قال صلى الله عليه وسلم : من تشبه بقوم فهو منهم .. رواه أحمد .
• وكذلك الحداد على أرواح الشهداء أو غيرهم .. بالوقوفُ والصمت لمدة دقيقة ترحماً
عليهم .. فهذه بدعة منكرة .. وإنما يكتفى بالدعاء والاستغفار لهم ..
• وكذلك لا يجوز تعليقُ صورٍ لأموات بل ولا الأحياء ، للذكرى أو لغيرها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي : لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .. رواه مسلم
.
ومن المخالفات :
• رفع الصوت أثناء تشييع الجنازة بالتهليل أو التكبير الجماعي .. والمشروع أن يدعو
المرء ويذكر الله مع نفسه .
• وكذلك الأذان في القبر .. أو بعد وضع الميت في قبره .. ولم يثبت ذلك عن النبي
صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم .. وقد قال صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ..
• وكذلك من البدع : الدعاء الجماعي بعد صلاة الجنازة .. أو بعد دفن الميت .. بل
المشروع أن يدعو كل واحد مع نفسه ..
• ومن المخالفات دفن الميت في تابوت .. والأصل أن يدفن الميت بكفنه في القبر .. من
غير تابوت .. إلا إذا دعت الحاجة إلى دفنه في تابوت كتقطع الجسم مثلاً ..أو كان
نظام الدولة يُلزم بدفنه بتابوت ولا يستطيع أصحاب الجنازة المخالفة .. فيدفن
بالتابوت .
* * * * * * * * * *
المسألة السابعة :
فعل القربات من الحي وإهداءُ ثوابها للميت جائز .. في حدود ما ورد الشرع بفعله
..كالدعاء له .. والحج .. والعمرة .. والصدقة .. والأضحية .. وصومِ الواجب عمن مات
وعليه صوم واجب .
أما قراءة القرآن أو الصلاة بنية أن يكون ثوابها للميت فلا تجوز ؛ لأنها لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك من البدع استئجار قارئ يقرأ القرآن للأموات في المآتم .
* * * * * * * * * *
المسألة الثامنة :
قبل توزيع التركة يجب إخراج تكاليف تجهيز الميت .. وسداد ديونه .. وتنفيذ وصيته ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد : ( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ) .
* * * * * * * * * *
المسألة الأخيرة :
وهي المسألة الكبرى .. والمصيبة العظمى ..
وهي الشرك الواقع عند القبور .. كمن يطوف على القبور .. أو يسأل أهلها الحاجات ..
واعتقاد أن الأولياء الموتى .. يقضون الحاجات ..
والله يقول : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
} ..
وبعض عُبَّاد القبور يطوفون بها .. ويستلمون أركانها .. ويتمسَّحون بها ..
ويقبِّلون أعتابها .. ويسجدون لها .. ويقفون أمامها خاشعين .. سائلين حاجاتهم .. من
شفاء مريض .. أو حصولِ ولد ..
وربما نادى الزائرُ صاحب القبر : يا سيدي ! جئتك من بلد بعيد فلا تخيبني .. !!
والله يقول : { %D